العودة   منتديات الطرف > الواحات الإسلامية > ۞ ۩ ۞ الواحة الإسلامية ۞ ۩ ۞




إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 28-06-2006, 01:40 AM   رقم المشاركة : 1
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي العقائد الأماميه عليهم السلام

بسم الله الرحمن الرحيم
الللهم صلي على محمد واله الطيبين الطاهرين وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عقائدنا هي الأصول الخمسة التي يقوم عليها الدين الإسلامي الحنيف، والأركان الحقة التي (نشيّد عليها إيماننا) وفطرة الله التي فطر الناس عليها ولا يقبل عملاً بغيرها، وهي المعارف الإلهية التي تقرب إلى الله زلفى وتوجب الجنة في العقبى..

هي (التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد)، بمعنى إننا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير، له الأسماء الحسنى والصفات العليا، صفاته عين ذاته واحد أحد، فرد صمد ولا حول ولا قوة إلا به وهو على كل شيء قدير.

ونشهد أن محمداً عبده المصطفى ورسوله المرتضى أشرف الخلق أجمعين وخاتم الرسل والنبيين جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب والمرسلين. وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وأبناءهما الأئمة المعصومين (عليهم السلام) حجج الله على الخلق وأولوا الأمر الذين آتاهم الله ما لم يؤتِ أحداً من العالمين.. بهم تتولى ومن أعدائهم نتبرأ ولهم نسلم وقد صدقوا في كل ما جاؤوا به عن الله تعالى من الأصول والفروع وغيرها في الدنيا والآخرة وما بينهما، كما حق ما أخبروا به عن المبدأ والمعاد وأمور الكون والكائنات من قبل المولى القدير. أما الدليل فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والسنة المطهرة والعقل السليم والفطرة الخالصة.

التوحيد:


أولاً: بيان عقيدتنا في التوحيد :


حينما نريد أن ندخل حلبة الصراع مع القوى المعارضة لفكرتنا لابد أن نعرف ما هو الموضوع الذي نريد أن نقدم له الدليل وندافع عنه؟ وما هي العقيدة التي نؤمن بها؟ وما هي أسس التوحيد وعقيدة التوحيد لدينا؟ ولكي نكون على وضوحٍ تام لابد أن نستند إلى خلفية فكرية صلبة نقف عليها وندافع عنها دفاع المعتنق المبدئي الذي يعانق عقيدته بقوة ويدافع عنها، وأيضاً يدفع عنها الشبهات والاتهامات ويضحي من أجلها إذن فنحن نعتقد عقلياً بضرورة معرفة أبعاد فكرة التوحيد ولو بمستوى مناسب لهذا البحث.

والدافع العقلي هذا هو المحقق لمعرفتنا تلك فمن ناحية يجب أن نقدم الشكر للخالق والمالك والمدبر الذي مهّد لنا السبيل لحسن الاستفادة من الطبيعة أمطارها وهوائها ومن الحيوانات والنباتات بل من أجهزة الإنسان الداخلية فقد قال سبحانه:

(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). [سورة التين: الآية 4].

وأمرنا بالنظر والاعتبار للتوصل إلى معرفته حق المعرفة ومن ناحية أخرى ندرك أن العقل يأمرنا بدفع الضرر عن أنفسنا فكل إنسان عاقل يؤمن بضرورة دفع الضرر عن النفس ومن المؤكد ان الذي لا يؤمن بالله تعالى حق الإيمان يعرّض نفسه لأكثر من ضرر وخطورة وبالفعل إنه يلقي بنفسه إلى التهلكة حيث الاضطراب النفسي والقلق في الحياة الدنيا فقد قال الله الكريم:

(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). [سورة الرعد: الآية 28].

وقال أيضاً: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). [سورة طه: الآية 124].

وأما في الآخرة فالهلاك والجحيم والخسران المؤكد حيث يقول عز وجل:

(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [سورة آل عمران: الآية 85].

ومن ناحية ثالثة هنالك دعوة إلهية مفتوحة للإنسان للالتزام بهذه العقيدة القائمة على أسس التوحيد ليحصل على السعادة في الدنيا والآخرة بل إلحاح في دعوته للنجاة وإلاَّ سيُحرم الإنسان من نعيم الآخرة على الأقل بل سيشقى نفسياً في الدنيا - كما مر في الآيات الكريمة - وسنوضح هذه الفكرة في حديثنا عن عدالة الله، بأن عدم التصديق بالتوحيد سيعكس سلوكاً شاذاً بعيداً تماماً عن السلوك السوي الذي يعكسه هذا المعتقد المقدس فمقابل تحقيق بعض لذائذ الدنيا غير الشرعية سيُحرم من لذات الآخرة الأبدية كما يقول سبحانه وتعالى:

(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم..). [سورة محمد: الآية 36].

والآن ما هي عقيدتنا في التوحيد:

عقيدتنا هي: إن الله سبحانه هو الخالق المبدع المهيمن المكون المبدئ للكون والإنسان والوجود وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء، قديم أزلي عليم حكيم عادل قدير حي غني باقٍ لا يزول، لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، بصير سميع، وغاية فكرة التوحيد انه واحد لا شريك له ولا معين له، لم يلد ولم يولد فهو الذي أوجدنا بحكمته وإبداعه لا شبيه له ولا نظير، فهو الموجِد والمميت والمحيي وهو ليس مثلنا لا بالصفات ولا بالقدرات فهو القدير والعليم لا كما نصف أحدنا بأنه قدير في أمر ما كالخطابة أو التعامل التجاري أو عارف بالنحو أو الطب فالله ليس كمثلنا ومن هنا تبدأ أزمة الإنسان في الاعتراف بوجود الله تعالى حيث أنه لا يستطيع أن يخرج من إطار شخصه فكل التصورات يتصورها شبيهة به، ونسخاً طبق أصله وكما قال الإمام الباقر (عليه السلام): (هل سمي عالماً قادراً إلا لأنه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين وكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم والبارئ تعالى واهب الحياة ومقدر الموت ولعل النمل الصغار تتوهم إن لله زبانيتين أي قرنين فإنهما كما لها وتتصور إن عدمها نقصاً له لمن لا يكونان له ولعل حال كثير من العقلاء كذلك فيما يصفون الله تعالى به سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون..)(1).

فيفترض الإنسان خالقه ومبدعه كشخصه فله عينان ورجلان وأجهزة داخلية وبمعنى آخر إنه يعكس مكوناته وصفاته على ما يتصور في ذهنه مثله مثل ذلك الشخص الأعمى العاجز الذي قيل له يجب أن تأكل من هذه الفواكة وقدمت له فاكهة التفاح قال: من أولدها؟ قيل له: شجرة اسمها شجرة التفاح قال: إنه إنتاج لذيذ ولكن لي أسئلة عنها قيل له: ما هي؟ قال: أين تنام هذه الشجرة؟ وكيف تسير أهي عاجزة عن السير مثلي؟ وما هو أكلها؟ وهل يمكن أن نضيّفها في بيتنا فترةً من الزمن؟ أو نهدي لها ملابس صوفية أيام البرد؟ كي تقي نفسها وهل يمكن أن نتعرف على زوجها وأقربائها؟ وهل لها أب أو أمير يحكمها؟ وهكذا..

ومن حقنا أن نتساءل - هنا -: لماذا يسأل هذا الإنسان الأعمى والعاجز كل هذه الأسئلة التي تبدو لنا في غير محلها؟ والجواب: لأنه لا يستطيع أن يتصور نظاماً غير النظام الذي يعيشه هو وأقرانه، ولا يمكن أن يتصور وجوداً مختلفاً عنه.

إذن إن الذي أوجدنا ليس مثلنا بالمكونات والصفات وصحيح قد تكون اللغة قاصرة لا تستطيع أن تجسد لنا ما نعتقد به ولكن علينا أن نميز بين قولين، فحينما نقول زيد عالم وخالقنا عالم، صحيح أن اللفظين بالشكل والصورة مشتركان في أمر واحد وهو العلم وبصيغة لفظية واحدة ولكنهما يختلفان بالمضمون قطعاً، وصحيح قولنا هذا سميع وهذا بصير ولكن ليس بنفس المفهوم الذي نطلقه على ذات الخالق سبحانه وتعالى.

فهو المنزه عن التشبيه وعن النقص ولذا يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (بل كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم) كما مر معنا آنفاً.

وأما الآيات الكريمة التي تجسد الله تعالى فهي من باب تقريب المعنى لذهن الإنسان ولا يمكنُ أن نؤمن بها بظواهرها مطلقاً فمثلاً قوله تعالى:

(وجوه يومئذٍ ناضرة، إلى ربها ناظرة). [سورة القيامة: الآية 22 - 23].

فهل يمكن أن يذهب البعض إلى أن المسلم يوم القيامة بإمكانه أن يرى الله سبحانه بعينه؟ فهذا أمر مستحيل إذ لو كان كذلك فيكون الله جسماً مركباً محتاجاً وحادثاً وغير أزلي وهذا ليس ربّنا والحقيقة أننا ننظر وننتظر رحمته وعطفه وثوابه يوم القيامة وهذا أمر مستساغ في اللغة العربية فهو لا يقصد النظر الحسي بالتأكيد، وكذلك في الآية الكريمة (يد الله فوق أيديهم) فلا يجوز التجسيم لذاته المقدسة وإنما المسألة معنوية تدل على أن قوة الله وقدرته فوق قوتهم وقدرتهم وهكذا بقية الآيات الكريمة الظاهرة في ذلك.

قال سيدنا أمير المؤمنين (عليه السلام): (من وصف الله فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله) يعني من وصف الله تعالى بصفة مغايرة لذاته فقد جعله مقارناً لغيره بالصفة ومن جعله مقارناً لغيره بصفته فقد ثناه إذ الموصوف وهو الله شيء والوصف شيء آخر ومن ثناه فقد جزأه أي جعله مركباً من ذات وصفه ومن قال بأنه ذا جزء لم يعرفه لأن الله واحد أحد.

وقال (عليه السلام) أيضاً: (أول الدين معرفته وكمال معرفته توحيده وكمال توحيده نفي الصفات عنه) وروى الصدوق في (التوحيد) عن عروة قال: قلت للرضا (عليه السلام): خلق الله الأشياء بقدرة أم بغير قدرة، فقال: لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة لأنك إذا قلت خلق الأشياء بالقدرة فكأنك قد جعلت القدرة شيئاً غيره وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك وإذا قلت خلق الأشياء بقدرة فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره.

وبإسناده عن الباقر (عليه السلام) إنه قال: (سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع...)(2).

هذا هو ربنا وهذه هي عقيدتنا به.



**************************************************

1 - حق اليقين، للسيد شبر: ج 1 ص 47.

2 - حق اليقين: ج 1 ص 36.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-06-2006, 01:43 AM   رقم المشاركة : 2
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

ثانياً: كيف يجب أن نعرف الله؟

في الساحة البشرية عقائد متنوعة ولكنها ترتبط بقواسم مشتركة فيما بينها مما يجعلها تتمحور حول صنفين من العقائد الصنف الأول: يجتمع على الإيمان بوجود الله الخالق الأزلي والصنف الثاني: لا يؤمن بوجود إله أزلي خالق للكون بل يدعو لأزلية شيء آخر كالمادة مثلاً أو يبقى متشبثاً بنكران الخالق وجحود الله بكونه علة الوجود ومدبره.

ويشمل الصنف الأول عقائد متنوعة أيضاً منها ما يؤمن بأن لله سبحانه شريك ومعاون في الإدارة الكونية أو عدة شركاء له، وبعضُها يؤمن بالإثنيّنية في الخالق حيث يرى استحالة اجتماع النقيضين في إله واحد فلا يكون إله الخير وإله الشر إلهاً واحداً وإله النور وإله الظلام إلهاً واحداً بل لابدّ أن يكون هنالك إلهان في العالم إله المنافع والخير والإيجابيات، وإله الأضرار والشر والسلبيات كما في عقيدة المجوس. وهنالك من يؤمن بتعدد الآلهة فإله للخير وإله للشر وإله للظلام وإله للنور وإله للمطر وإله للشمس، وهكذا.

كما ذهب الأغارقة إلى ذلك - في غابر الزمن - ومنهم من يرى ان الله سبحانه أوجد وأبدع الكون والوجود فهو علة الإيجاد والإبداع وليس علة الدوام والاستمرار حيث فقد أو ترك سيطرته بعد أن أبدع قوانين الحياة وسيّرها، بقيت الطبيعة وقوانينها الكونية هي التي تسيّر الوجود فهي المدبرة حالياً لمسيرها، أما الله فهو الخالق للقوانين الطبيعية فقط في بدايتها أما القوانين الطبيعية الحالية هي الآلهة الميدانية فهي تدير نفسها بنفسها بالاستمرارية كدحرجة الكرة من مرتفع فالبداية هي بتحريك الإنسان للكرة أما دوام الحركة فللاستمرارية وعليه فقد انتهى دور الخالق في الكون - وفقاً لهذه النظرية - بمجرد الإيجاد والإبداع! بينما يرى الإسلام إن الله سبحانه هو علة الوجود والإبداع أولاً وعلة الدوام والاستمرار كذلك فلا شريك له ولا نظير - كما مر.

وعموماً إن هذه النظريات الفلسفية المتعددة تلتقي في فكرة الإيمان بوجود الله ولكن باختلاف وجهات النظر وعلينا أن نتوصل عبر الأدلة العقلية والنقلية إلى أحقية العقيدة الصحيحة ويلزمنا أن نقدم الأدلة لدحض الأباطيل والأوهام التي تكتنف هذه العقيدة - عقيدة الإيمان بالله بالمعنى الإسلامي - فندفع نظرية تعدد الآلهة والإثنيّنية وغيرهما ولنقرر عبر الأدلة أن الله تعالى هو الواحد الأحد المبدع والمدبر المهيمن الدائم على ملكوته.

وقبل التطرق لهذه التفصيلات نودّ أن ندخل في حوارٍ موضوعيٍّ هادئ مع الصنف الثاني ولا نريد النقاش في صحة أو خطأ النظرية لأن ذلك سيأتي وإنما لنضع الجماعة أمام مفترق الطرق بعيدين عن التفصيلات والتشعبات فبكلمة واحدة نقول: إن الحق لواحد أينما نكون ومن أي منظار ننطلق فلا يمكن أن نؤمن بالتناقض فالشمس إما مشرقة أو مظلمة والقمر إما أبيض أو أسود فلا نؤمن بالتناقض في مكان واحدٍ وزمانٍ واحد وشروط منطقية واحدة.

ومن أبسط المناقشات والاستدلالات ومن واقع المنكرين لله! يمكن أن نتوصل مع هذه الجماعة إلى أنهم لا يطيقون جواباً أمام كلمة الحق وكلما هنالك نراهم يلتفون على هذا الأمر الفطري وهو الإيمان بالله بدوافع عديدة منها شخصية ومنها سياسية واجتماعية وعلى ما في تصوري الشخصي أنهم ينهزمون من الواجبات الشرعية التي تثقل كاهلهم غالباً فيبررون لهذا الانهزام تمسكهم بهذه الأفكار والنظريات المنكرة لمبدع الكون ليروضوا عقولهم ويجبروها على مسايرة شهواتهم وطموحاتهم الشخصية.

فالمؤمن مكلف بعدة واجبات بعد إيمانه بالرسل والرسالة الإسلامية والإمامة والمعاد فعليه أن يصلي ويصوم ويلتزم بالواجبات الشرعية ويترك المحرمات فالإيمان هو سلسلة من الالتزامات والضوابط فيفر المنكر هارباً من هذه الالتزامات عبر الضغط على فطرته وعقله بضغوطات النفس الأمارة بالسوء حتى ترضخ هذه الفطرة النقية! لضغوط وإرهاصات الغرائز النفسية وطموحاتها وبالنتيجة سينجذب العقل إلى أن يضع التبريرات والمسوغات بقالب فلسفي معين يرضاه لنفسه! ومثله مثل ذلك الصبي الذي أخذه والده إلى الكتاتيب كي يتعلم اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم وحفظه وقد كان الطفل ذكياً جداً لكنه في الدرس الأول امتنع عن مسايرة الدرس والاستجابة للتعلم وتظاهر بالبلاهة والبلادة وامتنع من تلفّظ الحروف الهجائية (أ، ب، ت...) فسأله المعلم عن السبب أجابهُ بأنه لا يستطيع التلفظ وحينما سأله عن أموره الحياتية الأخرى أجابه بطلاقة!! فعرف الشيخ أنه محتال فاستعمل معه وسائل الضغط المعروفة لدى بعض المعلمين بالتهديد والضرب وفعلاً ضربه ضرباً مبرحاً، حينها تعالت صرخاته وملأت الجو الدراسي ضجيجاً وبالتالي أعلن عن استجابته لقرار الشيخ في مواصلة التعليم وبالفعل بدأ يتلفظ الحروف بشكلٍ جيّد واستمر في دراسته وبعد فترة سأله الشيخ عن ذلك فأجابه بصراحة: لقد عرفت انه لا مخلص من هذه السلسلة الدراسية الطويلة فالمسألة لا تنتهي حينما أتلفظ الحروف الأولية حيث سنواصل الدراسة من بعد الحروف الهجائية تأتي سور القرآن وبعد السور التزامات وبعد الالتزامات سلوكيات وعبادات وواجبات وهلم جرّاً... ففكرت أن أنهزم كليّاً من البداية من دون الدخول في هذه الخطة التعليمية الطويلة فامتنعت من القراءة.. ولكني ما أفلحت! فكثير من أفراد هذه المجموعة المنكرة يشبهون هذا الصبي ففي واقعهم ينضمون إلى طريقة الانهزام من المسؤوليات والانفلات من الواجبات فقد قال سبحانه في محكم كتابه:

(فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحر مبين، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين). [سورة النمل: الآيتان 13، 14].

وهكذا مهما اختلفت الأسباب والتصورات في تفسير أصحاب الصنف الثاني فالمسألة مصيرية بحد ذاتها وبحاجة إلى القرار الشجاع في اختيار العقيدة التوحيدية الخالصة من الشوائب التي أشرنا إليها.

ونعود الآن إلى الحديث عن فكرة الصنف الأول: لماذا التعدد في وجود الآلهة؟

يقول القرآن الحكيم: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور). [سورة الملك: الآية 3].

فالدقة البنائية في الخلق الإبداعي للكون تدل على وحدة الخالق المبدع.

ونتساءل لماذا لابد من وجود إلهين اثنين؟ والحال إن كل شيءٍ في الكون يدل على أن الخالق واحد لعظمة الانسجام والتنسيق فيما بين المخلوقات في العالم.

فــوا عجبا كيف يُعصى الإله أم كيــــف يجـــحده الجــاحِدُ

وفــــي كــل شـــــيءٍ له آيـةٌ تــــدل عــــلى أنـــه الـواحِدُ

وجدلاً نقول إن هذه الآلهة المتعددة أو الإلهين إما أن يكون أحدهم أو أحدهما هو الأقوى فيقدر على غيره وأما أن يكونوا بدرجة متساوية من القوة فلا يقدر أحدهم على غيره فإن قلنا إن أحدهم قادر على غيره فهو الإله المدبر الواحد وإن قلنا إن أحدهم ليس قادراً على غيره من المشاركين معه في الألوهية فنسلب منه صفة مهمة من صفات الألوهية وهي القدرة فإذن لا يستحق أحدهم منصب الإله الحقيقي المبدع المهيمن القادر وكيف نقول إنه قادر ويعجز عن السيطرة على وجودات منافسة له فالإيمان بالإله على أنه قادر وعاجز في آن واحد هو إيمان بالتناقض الباطل عقلاً، والعجز صفة شاملة لكل أنواع العجز سواء كان من السيطرة على المنافس أو الهيمنة على قانون الطبيعة فهو عجز على كلِّ حال وبالمقابل القدرة صفة شاملة كذلك لكل أفرادها فالقادر قدرته مطلقة والمهيمن هيمنته مطلقة.

(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). [سورة يس: الآية 82].

ولا فرق لديه بين إبداع السماوات والأرضين وإبداع حشرة حقيرة كالذبابة أو البعوضة فقد قال سبحانه:

(إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين). [سورة البقرة: الآية 26].

والقرآن العظيم في موضع آخر يتناول فكرة الشريك لله سبحانه ووجود الآلهة المتعددة فيقول:

(لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون). [سورة الأنبياء: الآية 22].

فالدقة التي نراها في خلق الكون من الذرة إلى المجرة والنظام الذي نراه في جسم الإنسان والحيوان والنبات إنه حقاً يرغمنا للاعتراف والإذعان للمبدع الأكبر فلو كان هنالك مدبّران لهذا الكون لارتبكت الأمور الكونية كما لا يمكن أن نتصور رئيسين لدولة أو مديرين لمعمل وهكذا لا يمكن أن نتصور إلهين لهذا الكون وبالفعل لو كانت الإدارة أثنينية لكانت تأتينا الأوامر والإرشادات من كل إله بل تأتينا رسل وكتب سماوية من كل إله ونحن ما وجدنا في قديم الزمان أو الزمن الحالي من يدّعي هذا الإدعاء الباطل فقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:

(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألاَّ تعلوا عليّ وأتوني مسلمين). [سورة النمل: الآيتان: 30، 31].

وقال الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن أو محمد بن الحنفية على اختلاف الروايات: (واعلم يا بُني أنّه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه).

أما الإمام الصادق (عليه السلام) فقال في جواب الزنديق الذي قال له: لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟:

(لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو ضعيفين أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً فإن كانا قويين فلِمَ لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير وإن زعمت ان أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني وإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دلَّ صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد)(1).

أما فكرة تعدد الآلهة فكذلك إن قلنا كلهم موجودون في آن واحد يأتينا الحديث المار الذكر بمعنى أيهم أقوى وأقدر؟ فإن برز منهم أحد فهو الإله القادر وإن كانوا متساوين في القوة والقدرة فيكون كل واحد منهم عاجز وقادر في آن واحد وهذا ما أبطلناه حيث التناقض - كما مر معنا - فإذن لا يمكن أن نؤمن بإله عاجز وغير قادر.

هذا إن قلنا إن الآلهة موجودة في آن واحد وهنالك من يذهب إلى أن تعدد الآلهة عبر تجدد الزمن وبكلمة أخرى يرى أنّ العرش الإلهي هو منصب وراثي: إله ابن إله فكل اثنين بحاجة إلى ثالث والثالث بحاجة إلى رابع والرابع بحاجة إلى خامس، وهكذا...

فالموجد المبدع بحاجة إلى من أوجده وأبدعه فهو حادث والحادث بحاجة إلى علة والعلة بحاجة إلى علة أخرى، ونقع حينئذ في التسلسل الباطل كما يقول الفلاسفة إذ لابد من نقطة بداية لهذا الكون ولهذا الوجود فإن لم نتوصل لهذه القناعة سنبقى نسلسل العلل تلو العلل إلى ما لا نهاية.

وهذا الكلام يصلح للجواب على من يسأل من أوجد الله؟! فيدخل في نفق التسلسل علة تجر علة من دون أن يخرج منه بنتيجةٍ ملموسة بل يزداد تيهاً على تيه.

وهنا إما أن نقول إن هذه العلل باقية على حالها وكانت هكذا من دون الحاجة إلى علة رئيسية موجدة أو سبب أخير في إبداعها. وبالتأكيد إن هذا الكلام هو نكران واضح للقانون العقلي فلكل معلولٍ علة ولكل مسبَّب سبب، هذا قول، وإما أن نأخذ بالقول الآخر وهو: أن نفترض أن لهذه الموجودات ولهذه العلل علة تعتبر أم العلل الكونية وهي التي أبدعت الوجود ووضعت القوانين الطبيعية وخلقت الإنسان والحيوان وهذه العلة الرئيسية نسميها الله القادر المبدع المهيمن وهكذا نتوصل إلى فهم الخالق الموجد المبدع.


************************************************** ********

1 - حق اليقين: ج1 ص 15 وما بعدها.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-06-2006, 01:43 AM   رقم المشاركة : 3
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

اعتذر عن هذا الخلل الغير مقصود

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-06-2006, 01:45 AM   رقم المشاركة : 4
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

ثالثاً: الله خارج عن حدّ التشبيه والتعطيل


قال سبحانه وتعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). [سورة الشورى: الآية 11].

وكما أسلفنا إن الذي أوجدنا ليس مثلنا لا بالذات ولا بالصفات فهو تعالى قوي قادر عالم ليس كما نتصور الإنسان القوي ذا العضلات المفتولة والقدرة الفولاذية وإنما قوته وقدرته وعلمه - كل ذلك - لا يقع في تصوراتنا المحدودة وأيضاً هو الخالق المبدع المهيمن على هذه الوجودات لا مثيل لذاته ولا شبيه لصفاته وبهذا التقرير لا يمكن أن نشبّه الله سبحانه بأحدٍ بلغ قدْراً من إبداع محدود في صناعة أو تأليف شعر فالله سبحانه كما وصف نفسه (ليس كمثله شيء) لأن كل شيءٍ في الوجود نراه بأعيينا فهو مخلوق ومرتبط وجوده بزمن ويتغير مع الظروف وحاشا الله عز وجل من هذا التشبيه والتمثيل.

بالإضافة إلى أننا لا يمكن أن ننكر وجود مدبر عليم يدير الكون وينظم حركته فأنفسنا وما نرى من الظواهر والآثار الكونية تكفي للاعتراف والإذعان التام لعظمة الخالق الكريم فهو ليس نكرةً أو عدماً بل إنه موجود حتماً لوجود آثاره وحكمته وإنه لا شبيه ولا مثيل له ومن هنا قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كل موهوم بالحواس مدرَكٌ بها تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق) وبهذا فإن دائرة التشبيه بالحواس المحدودة التي نملكها بعيدة عن الله سبحانه وكذلك لا يمكن نفيه، فالأنظمة الدقيقة في الكون تدل عليه دلالة واضحة.

فقد قال (عليه السلام): (لابد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه لأن من نفاه أنكره ورفع ربوبيته وأبطله ومن شبهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين).

فكل ما نتخيله ونتصوره في أذهاننا محدود مثلنا، محتاج مثلنا، فقير مثلنا، متغير مثلنا، له بداية كما له نهاية مثلنا بالضبط، لأنه انعكاس عن ذواتنا المتصفة بالتغيير والتبديل والانتهاء فإننا لا نستطيع أن نتعرف على وجود أحد أو أن نحيط علماً بوجوده، بأدواتنا الملموسة هذه إلاَّ أن يكون مثلنا أو دوننا فلا نستوعبه بل لا نستطيع معرفة وجود الذي هو فوقنا كمالاً بهذه الأدوات الملموسة والمحسوسة لأنها محدودة الطاقة والإمكانية.

فالوجود الذي نحن نعرفه ونستوعبه يكون ضده العدم والله سبحانه وجوده ليس له ضد فوجود الله عز وجل لا كما نفهم من الوجود الذي يقابله العدم بل هو الوجود المطلق والكمال المطلق وحينما نقول الله أكبر فإن كنا نقصد إن الله أكبر من كل شيءٍ فقد حدّدناه والمفروض أن نقول إن الله أكبر من أن يوصف فقد قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (فمن وصفه فقد حدّه ومن حدّه فقد عده ومن عدّه فقد ثناه ومن ثناه فقد جعل له شريكاً).

وحقاً كل ما نشاهده أو نتصوره في الذهن فهو من سنخنا وجنسنا أي حسب حدودنا وانعكاسنا بينما الذات المقدسة ليست من سنخنا فكيف نستطيع أن نشبهها على ضوء حواسنا المحدودة وعقولنا القاصرة كذلك، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) - في هذا الصدد -: (تعالى الله عما يصفه الواصفون) فإذن لابد أن ننفي عن الله التشبيه والعدم يقول الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: (... فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا...)(1).

لأننا لا نستطيع معرفة كنه الله وماهيته بل لا نستطيع التوصل إلى المعرفة المحسوسة لله لأن الله خارج عن إطار إحاطتنا المحدودة والقاصرة يقول الله في محكم كتابه:

(وما قدروا الله حق قدره). [سورة الأنعام: الآية 91].

ويقول الإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي لولا أمرك لنزهتك عن ذكري لأن ذكري بقدري لا بقدرك) ولكن تعاليم الله وأوامر بالذكر والدعاء والتسبيح هي التي جعلت الإمام والإنسان المحدود يذكر اللامحدود ويسبح له.

فقد قال سبحانه: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). [سورة الأنعام: الآية 103].

وعن الجعفري عن الإمام الباقر (عليه السلام) في كلامه حول هذه الآية المباركة قال: (يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصــرك وأن القـــلوب لا تـــدركه فكـــيف أبـــصار العــيون)(2).

فإذن كيف نعبد ربّاً لم نره؟ يجيب على ذلك الإمام علي (عليه السلام) - كما يسند إلى الأصبغ - قال: قام إليه رجل يُقال له ذغلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذغلب لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره فقال: كيف رأيته؟ صفه لي قال (عليه السلام):

(ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)(3).

فإذن هذا هو الله - خارج عن حدّ التشبيه والتعطيل بل تدركه العقول بآثاره الحكيمة -.


************************************************** *********

1 - حق اليقين: ج 1 ص 45.

2 - حق اليقين: ج 1 ص 39.

3 - حق اليقين: ج1 ص 39.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-06-2006, 01:46 AM   رقم المشاركة : 5
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

رابعاً: موقع الحواس من معرفة الله سبحانه


الحواس الخمس التي يمتلكها الإنسان هي بمثابة النوافذ الطبيعية بينه وبين العالم الخارجي فالعين ترى الموجودات لتميز الألوان والأشكال وتكشف النور عن الظلام أما الأذن فهي تميز الأصوات لتعرف صوت الصديق عن غيره ولتميز أيضاً بين أصوات الطبيعية كخرير الماء وحَفيف الشجر وأصوات الحيوانات كصهيل الخيل وزئير الأسد وفحيح الأفعى وزقزقة العصافير وكذلك تميز بين أصوات المكائن والآلات الميكانيكية وبين أصوات الطائرات الحربية عن الطائرات المدنية وبين أزير الرصاص وصوت القذائف وهكذا.. وأما الأنف فيشم الروائح المتنوعة فيميز العطور الجميلة عن الروائح الكريهة أيّاً كان المصدر بل ويميز العطور الجميلة ذاتها في درجة التركيز أو الخفة حسب المصادر.. وأما اللسان فيتذوق الأمور ليكتشف لنا الطعم الحلو عن المر والحار عن البارد، إضافة لكونه الناطق الرسمي عن أفكار وأحاسيس الإنسان الداخلية.. وأما حاسة اللمس فتكشف لنا عن الملمس الخشن لتميزه عن الناعم وهكذا فالحواس إذن هي النوافذ الطبيعية التي تربط الوجود الخارجي بذهنية الإنسان. وسبحانه الخالق الكريم الذي قال:

(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). [سورة التين: الآية 4].

ونحن في دراستنا عن الحواس ندرك بأن هذه الحواس لها مدىً محدود لا تستطيع أن تتجاوزه والواقع العملي أثبت هذه المسألة حيث إن الحواس الخمس بأجهزتها المعقدة فإنها محدودة بحدود معينة وبقدرات معينة لا يمكن تجاوزها فمثلاً وببساطة نحن لا يمكننا أن نرى ماذا يجري حالياً في شوارع باريس لأن أعيننا قاصرة عن تحقيق هذا الهدف كما لا يمكن أن نرى ماذا يجري في الشارع المجاور لنا وحتى خلف جدران غرفتنا لا نستطيع رؤيته لأن الجدار يحجب عن قدرة العين الباصرة. وحاسة الأذن كذلك، لها ذبذبات معينة تتمكن أن تسمع فيها فلو زادت عن هذا الحد الطبيعي أو نقصت لم نستطع سماع شيءٍ ما، ففي عالم النمل مثلاً لا نستطيع سماع الحوار الدائر بين أفراد النمل بالرغم من أننا ندرس عن هذه المملكة وجيوشها ونظامها، كل ذلك لأن قدرة استيعاب الأذن لذبذبات الصوت قدرة محدودة وما ينطبق على حاسة السمع ينطبق كذلك على حاسة الشم واللمس أي أن هذه الحواس محدودة القدرة والقابلية.

والسؤال المطروح أن هذه الحواس المحدودة ماذا نريد منها؟ أنريدها أن ترى كل شيء في الوجود بما في ذلك الخالق المدبر مثلاً وأنّى لها ذلك وكيف يكون لها ذلك؟

ممّا تقدم نفهم أن الحواس التي نمتلكها هي نوافذ المعرفة للإنسان بالفعل ولكنها قاصرة ومحدودة لا تستطيع أن تستوعب كل الأحداث وتميزها إضافة إلى أن الحواس هذه قد تخطئ كما في الحالات السرابيّة بالنسبة للعين فهي ترى السراب وتتصوره حقيقة ولكن حينما تقترب منه لا ترى شيئاً وينتقل السراب الخادع لمكان آخر.. وعليه نحن لا نستطيع أن نجزم أن كل الوجودات في الكون لابد أن تمرّ عبر حواسنا مباشرةً حتى نؤمن بها كحقيقة قائمة وإنما قد نصل لمعرفتها عبر معرفة الحقائق اليقينية بصورة غير مباشرة أي من خلال آثارها، فإذن لا تستطيع حواسنا استيعاب كل الوجود كي تؤمن به وإنما نستطيع أن نؤمن بنوع من الوجودات التي نتحسسها وندركها عن طريق آثارها حتى لو لم تخضع لإحدى حواسنا مباشرة، مثال ذلك المغناطيسية في الحديد والقوة الكهربائية والجاذبية الأرضية وغيرها فنحن نؤمن بوجودها قطعاً من دون أن نراها أو نشمها... وبمعنى آخر لا تخضع لهذه الحواس التي بحوزتنا وإنما نؤمن بها من آثارها... فنحن بتجاربنا ندرك أن الذي يصعد إلى قمة الجبل أصعب وأشق من الذي ينزل من القمة إلى الوادي وكما في تجربة نيوتن والتفاحة كيف أنه رآها حينما تنضجع تسقط إلى الأرض ولا تصعد إلى السماء... فمن ذلك توصلنا إلى الإيمان بوجود جاذبية في الأرض تجذب إليها الأجسام والهواء.. وكذلك المغناطيسية في الحديد فنحن لا نستطيع أن نميز بين قطعتين من الحديد إحداهما ممغنطة والأخرى غير ممغنطة إلاَّ بعد أن نرى الآثار فنجزم بوجود المغناطيسية بالرغم من أننا لا نستطيع أن نسمع أو نرى أو نشم أو نلمس أو نتذوق المغناطيسية والجاذبية... وحتى الأشعة غير المرئية فلو استعملنا المنشور المضلع في مختبر الفيزياء مثلاً فإننا سنلاحظ فرز سبعة ألوان هي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي فقط والعلماء يؤكدون على وجود ألوان أخرى غير مرئية فيسمونها بالأشعة تحت الحمراء وما وراء البنفسجية فلا نراها ولا نشمها ولا نتذوقها لكننا نؤمن بها.

وكذلك القوة الكهربائية فهي قوة لا تخضع للحواس الخمسة وإنما يميّزها العقل من خلال الآثار فمن الصعوبة بمكان أن نشير لسلك كهربائي فيه قوة أو خالٍ من القوة الكهربائية حيث لا فرق بين السلكين إلاَّ بالآثار.

وحتى بعض المسائل الوجدانية كالحب والبغض والألم واللذة لا يمكن أن تخضع للحواس الخمس يقال أن بهلولاً صادف إنساناً ينكر وجود الله بحجة إنه لم يره فضربه بحجر أصاب رأسه فتألم وصرخ متوجعاً فالتفت إليه بهلول متسائلاً: إني لا أرى للألم لوناً ولا شكلاً ولا طعماً ولا رائحة فاتعظ المنكر.

وفي نقاش الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) مع أحد الزنادقة في عصره جاء إليه محتجاً وهو يقول: أوجَدَني كيف هو؟ وأين هو؟ فقال (عليه السلام): ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الاين بلا أين (أي إنه أبدع الكون وأوجد المخلوقات في مواقعها) وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفية ولا بالأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء. فقال الزنديق: فإذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسةٍ من الحواس. فقال الإمام (عليه السلام): (ويلك لمّا عجزتْ حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزتْ حواسنا عن إدراكه أيقنا أنّه ربنا بخلاف شيءٍ من الأشياء). قال الرجل: فأخبرني متى كان؟

فقال (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

فقال (عليه السلام): (إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمتُ أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء الحساب تصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أنّ لهذا مقدراً ومنشئاً).

هذا وفي بعض حالات الخوف والفزع بل وفي ذروة الخوف حيث لا يُتوقع الإنقاذ من قوة اعتيادية يتصل الإنسان بوجدانه وضميره وفطرته بالخالق المدبر حيث إن هذا الهاجس المرعب يضغط على الحواس فيقلصها إلى أن تعلن إفلاسها أمام الحدث لتبرز الفطرة وتحكم بما وراء الحواس قوةً حقيقية للإنقاذ. يروى أن رجلاً جاء للإمام الصادق (عليه السلام) وسأله: عرفني ربّي فقال له الإمام (عليه السلام): هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: هل كُسرت بك السفينة؟ قال: نعم قال (عليه السلام): هل تعلق قلبك بشيءٍ حيث لا سفينة تنجيك ولا أحد يغنيك؟ قال: نعم. قال الإمام: (ذلك هو ربك).

ففي أحلك الساعات وأحرجها تنطق الفطرة بالحق هامسةً بصوت عال متوجهةً بصدق وإخلاص مباشرة فهي تحطم كل الحواجر التي صنعتها الحواس والماديات والدنيا لتتعلق ببراءة وصدق بالمصدر الأزلي الدائم.

فإذن ليس كل ما لم يخضع للحواس فهو غير موجود وكل ما يخضع للحواس فهو موجود بل قد تكون هنالك أمور واضحة للعقول ولكن الحواس قاصرة عن إدراكها، بل الآثار تدل عليها يقول سبحانه وتعالى:

(قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون). [سورة الملك: الآية 23].

وكذلك يمكن العكس حيث أن الحواس تخدع الإنسان بوجود شيءٍ خيالي كسراب الماء مثلاً فيتصوره حقيقة وإذا به خيالاً - وقد مرّ ذلك -.

ويصور لنا القرآن الكريم هذه الصورة الوهمية ويعتبر أعمال الكافرين هي كالسراب الخادع للعين بوجوده، لكنّه أمرٌ وهميٌ لا حقيقة له، فيقول: (والذين كفروا أعمالُهم كَسَرابٍ بقيعةٍ يحسبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئاً وَوجَدَ اللهَ عنده فوفّاهُ حسابه واللهُ سريعُ الحساب). [سورة النور: الآية 39].


ولي عوده وتتميمه فنتظروني

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-07-2006, 09:48 AM   رقم المشاركة : 6
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

خامساً: الجهاز العقلي وطريق الاستدلال

العقل هو الجهاز الكاشف للحقائق وهذه الحقائق قد يستلمها بإيعازات الحواس أو يستلمها من الآثار المتعددة سواء كانت خارجية أو داخلية فيسلط عليها أشعته الكاشفة ليتبين بالتالي حقيقة الأمر فبالعقل نميّز الطريق المستقيم عن الطريق الملتوي وبالعقل نكتشف خطأ الأفكار وصحتها ومن العقل نستلم بطاقة الدعوة لفعل الخير والجمال وإطاعة الخالق المدبر ومن العقل نتلقى إشارات حمراء بعدم ممارسة الأعمال الشريرة المخالفة للفطرة الإنسانية.

قال تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). [سورة النحل: الآية 12].

فالعقل هو الأداة الكاشفة والمميزة والدالة على الله سبحانه وتعالى حيث القدرة الكاملة والملك التام المطلق.

وهنا يبرز سؤال مفاده: من دلّ العقل على الله ومن منحه هذه القابلية ليبحث عن الأسباب والعلل الماورائية؟ وفعلاً لا يستقر للعقل قرار حينما يبقى في إطار الشك والاحتمال فيسعى بكل قوته للتوصل إلى السبب الأول حيث تتوفر القناعة التي بدورها تجعل العقل مستقراً ومطئمناً ويمكن أن نقول إن هذه المسألة من المسائل الجديرة بالبحث والمناقشة وقد ازدادت الإجابات عنها حيث تتعدد الجهة التي تلهم العقل هذه القابلية على البحث والتمييز عن الخالق الأعظم بل السعي لمعرفة علة العلل وسبب الأسباب فمنهم من قال: إن القوة الملهمة قوة ذاتية كالآلة الميكانيكية تضعها على قانون معين فتستمر عليه دون توقف تبعاً لقانون الاستمرارية كدحرجة الكرة ومنهم من قال: إن القضية تكسبيه حيث تم اكتساب هذه القابلية من البيئة والمجتمع ونحن نسدل الستار على كل هذه النظريات التي هي بحاجة إلى كلام طويل لعرضها وتوجيهها فلنبرز الرأي الإسلامي الصحيح من منابعه الأصيلة، يقول مولانا أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في دعاء الصباح:

(يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار بمقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه يا من دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته..) تأمل في قوله (عليه السلام) يا من دلّ على ذاته بذاته فالله سبحانه هو الذي ألقى في روعنا وعقولنا هذه الغاية المقدسة وهذا الطموح الفطري كي يسعى الإنسان للتوصل إلى معرفته سبحانه بنور العقل.

والإمام السجاد (عليه السلام) في هذا الصدد يقول في دعائه: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك. ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت..).

والآن دعنا نتصور هل أن العقل باستطاعته أن يدرك كل الأشياء والوجودات بكنهها وماهيتها ودقة جزئياتها وأوصافها حتى نعمّم هذه الاستطاعة لتشمل بحثنا عن معرفة الله عز وجل وبكلمة أخرى هل استطاع العقل أو هل يستطيع أن يدرك ماهية الله وكنهه بالشكل المحسوس أو الملموس؟

وفي الإجابة على هذا الاستفهام نجزم بأن العقل الإنساني لابد أن يكون قاصراً وقابلياته محدودة وهذا الجهاز المخلوق والمحدود قطعاً لا يستطيع أن يحيط علماً وإدراكاً باللامحدود وهو الخالق العظيم بل أكثر من هذا إن العقل الإنساني قد لا يحيط علماً حتى ببعض الماديات والملموسات من الأشياء المتعارفة التي يقرّ بوجودها العلم فلا تظهر للإنسان إلاَّ أن يكون متخصصاً بالعلم المعين فيمكنه أن يحيط بالشيء أو بجزئه إحاطة شاملة نوعاً ما مثلاً الأطباء فإنهم لم يحيطوا بكل أمراض جسم الإنسان وليس باستطاعتهم أن يشخّصوا المرض ويصفوا الدواء لكل الأمراض المستعصية وهكذا يقف العلم الحديث والطب الحديث عاجزاً عن شفاء بعض الأمراض المستعصية والتي لازالت لغزاً يصعب حلّ رموزه فمن هنا نفهم أن العقل الإنساني رغم إنجازاته العملاقة في الحياة لكنه يعجز عن أمور قد تكون تافهة في نظر الإنسان العادي، صحيح أن العقل الإنساني توصل إلى صنع سفينة الفضاء وصنعَ العقل الإلكتروني ولكنه يعجز عن قتل الجرثومة التي تسبب الزكام مثلاً ولكنه يعجز عن معالجة مرض السرطان فضلاً عن عجزه المطلق إذا طلبوا منه إحياء ذبابة أو إعادة الروح إلى نملة ولتستخدم أضخم المختبرات الطبية لهذه العمليات.

يقول سبحانه في محكم كتابه الكريم: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقّ من ربهم وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين). [سورة البقرة: الآية 26].

وبالفعل: (وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً). [سورة الإسراء: الآية 85].

أحد العلماء الكبار صاحب نظريات علمية رائعة ترك وصية قبيل وفاته بعد أن سأله أحد عن إنجازاته العلمية قال: إني اكتشفت أننا لا نعلم شيئاً ومثلنا مثل ذلك الطفل الجالس على شاطئ البحر يتلاعب بالصدف والحصى الملقى على الساحل بواسطة الأمواج البحرية ونتصور بذلك أننا نعلم بكل شيء والحال أن أسرار البحر العظيمة وما يجري في الأعماق كلها مخفية عنا فبمجرد معرفة شيء بسيطٍ جداً عن البحر كالصَّدَف نتصور أننا عرفنا كل شيء!

يقول الأستاذ بويس هامان أستاذ علم البيئة: عندما أرى قطرة من الماء تحت الميكروسكوب وحينما أشاهد أبعد النجوم بالتلسكوب تأخذني الحيرة الشديدة.

ويقول ويليام جيمس الفيلسوف الأمريكي (ت 1910):

(إن نسبة علمنا إلى جهلنا كنسبة قطرةٍ إلى محيط).

فإذن نحن لا نستطيع أن نحمّل عقولنا أكبر من قابليتها وإنما المفروض أن نوظفها في مجال اختصاصها كي تسير مسيرة طبيعية ولا تشذ عن طريقها بشكلٍ مريب وقلق.. فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب الإحاطة بصفته).

وجاء في الرواية: (لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته) فبما أن العقول قاصرة عن إدراك الإحاطة التامة بصفة الله سبحانه بالشكل الملموس فعليه أن الله سبحانه لم يوجب علينا هذه المعرفة باعتبار أنها خارجة عن قابلياتنا وقدراتنا فقابلياتنا محدودة وقاصرة ولهذا السبب نرى كثيراً من الأحاديث والروايات الناهية عن التفكير في ذات الله وكنهه فقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرّون قدره).

وقال أيضاً: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا)، (تفكروا في كل شيءٍ ولا تفكروا في ذات الله)(1).

وقال الإمام علي (عليه السلام): (.. والله هو المستور عن درك الأبصار المحجوب عن الأوهام والخطرات)(2).

وفي مرة كان الإمام الصادق (عليه السلام) يمرّ في المسجد فسمع أناساً يتكلمون في ذات الله فالتفت إليهم ونهاهم عن ذلك بقوله: (يا قوم لا تتكلموا في ذات الله فإن قوماً تكلموا في ذات الله فتاهوا)(3).

فإذن مسألة معرفة ذات الله وكنهه وماهيته مسألة مرفوعة عن العقل الإنساني لأنها خارجة عن قدرته وطاقته والمفروض أن نؤمن بالله سبحانه قوة خالقة مهيمنة بصورة متناسبة مع قدرة عقولنا ولا ندخل في التفصيلات التي لا تزيدنا إلا حيرةً وابتعاداً عن أصل المطلب والمسألة طبيعية جداً حيث أننا نؤمن بكثير من الأمور من حولنا في الحياة دون الدخول بالقضية التفصيلية وإنما نصل إلى التصديق العملي عبر المعرفة الإجمالية التي تجرنا إلى الإيمان والتصديق في النتيجة فمثلاً روح الإنسان هل من عاقل ينكرها؟ وبالمقابل هل من عاقل يدرك ذاتها وماهيتها؟ لا يدّعي ذلك أحد.

وإنما بصورة إجمالية نعرف تلك الروح ونعتقد بأثرها الواضح.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(الحمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبه خالق الخلائق بقدرته واستعبد الأرباب بعزته وساد العظماء بجوده وهو الذي أسكن الدنيا خلقه وبعث إلى الجن والإنس رسله ليكشفوا لهم عن غطائها)(4).

فمن هنا يبرز دور الأنبياء والرسل (عليهم السلام) جاؤوا ليبينوا للناس حقيقة الأمر ويأخذوا بأيديهم إلى الاستقامة والمعرفة الحقة عن طريق الآثار التي تدل عليه سبحانه وتعالى وتجدر الإشارة إلى أن هذا القصور الموجود في حواسنا المختلفة كالعين والسمع وكذلك القصور الموجود في عقولنا ليس كل هذا من باب النقص والعيب وإنما من باب التقدير الإلهي الحكيم الذي بواسطته تتحقق الحكمة الإلهية البالغة في أن تكون لكل أمر حدود معينة لا يمكن تجاوزها فالعين لها حدود كما للعقل حدود ليستقيم نظام الحياة فقد قال عز من قائل في محكم كتابه:

(ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً). [سورة الفرقان: الآية 2].

ولكن من خلال هذه الحدود المرسومة يستطيع الإنسان أن يتوصل إلى أبواب الحقيقة والمعرفة الحقة فيدخلها بأمان ونحن حينما نؤمن بأننا في دار امتحان واختبار في هذه الدنيا يمكن أن تكون هذه الحدود من جملة هذه الامتحانات المفروضة على الإنسان.

فإذن ذات الله وكنه وجوده وماهيته لا يمكن أن نتوصل إلى معرفتها تفصيلياً كما لا نتمكن من معرفة القوة الكهربائية والمغناطيسية والروح الحيوانية كذلك - ومن الطبيعي أن الأمثال تضرب لتقريب الفكرة ليس إلاَّ لأنها لا تقاس -.

فقد قال سبحانه: (ليس كمثله شيء). [سورة الشورى: الآية 11].


************************************************** *********

1 - ميزان الحكمة، ري شهري: ج 6 ص 165.

2 - ميزان الحكمة، ري شهري: ج 1 ص 132.

3 - الرواية مسموعة من محاضرة إسلامية عامة.

4 - تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون ص 39 باب وحدانية الله سبحانه.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-07-2006, 09:51 AM   رقم المشاركة : 7
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

سادساً: كيف ومن أوجد الكون؟


هنالك عدة توجهات للإجابة على هذه المسألة أهمها:

1 - مناقشة أزلية المادة.

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب.

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي
.

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة.

2 - نظرية الصدفة في خلق العالم.

3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود.

4 - الله هو الخالق للكون وحديث الأدلة على ذلك.

5 - وقفة مع الشبهات والردّ عليها.

سندرس هذه التوجهات لنصل إلى الأمر الذي تقنع به عقولنا بروحٍ موضوعية تماماً وهنا وقبل البدء أسجل ملاحظة هامة لهذه الدراسة وهي أن هذه الدراسة الموضوعية تحتاج إلى نوع من التجرد عن العواطف والمعتقدات - على الأقل وقتياً - كي نستوعب الآراء وأدلتها بموضوعية ونردّ عليها بموضوعية كذلك والمفروض أن نزرع في أنفسنا الثقة التامة لخوض هذا المضمار العسير الذي يحدّد مصيرنا ومصير أمتنا الإسلامية كذلك.

فلنبدأ بالتوجه الأول:

1 - أزلية المادة:

ما معنى الأزلي؟ وماذا يقابله من المعاني؟ وما معنى الأبدي؟ وما يقابله أيضاً؟ لنتعرف على ذلك في البداية.

الأزلي هو الذي لا بداية له ويقابله الحادث الذي لوجوده بداية مرتبطة بالزمن والأبدي هو الذي لا نهاية له أي أنه يبقى خالداً دون فناء ويقابله الحادث الذي يفنى ويزول وينتهي في وقت معين. أما أهم صفات الأزلي الأبدي الذي يقابله الحادث فهي ما يلي:

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب

أي إن الأزلي لا يحتاج إلى شيءٍ كي يختلط معه أو يشترك معه ليبرزه بشكل معين بينما الحادث ذاته بحاجة إلى عنصر أو عناصر أخرى كي يبرز بوجهه المألوف إلى الوجود فقد يكون هذا الحادث مركباً من جزءين أو أجزاء عديدة فالإنسان مثلاً مركب من دم ولحم وعظم وشعر وجلد بعد أن كان نطفة صغيرة فتركبت مع بويضة الأنثى في الرحم ثم تطورت الأعضاء بمرور الزمن إلى هذا الكائن الحي فهو مركب من أجزاء عديدة وكل جزء ينمو ويظهر لتفاعلات معينة مرتبطة بالزمن كالأسنان اللبنية في الطفولة مثلاً تظهر في ظروف معينة مرتبطة بزمنٍ ما يقول الإمام علي (عليه السلام): (أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشُغُف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقةً محاقاً، وجنيناً، وراضعاً، ووليداً ويافعاً. ثم منحه قلباً حافظاً ولساناً لافظاً وبصراً لاحظاً..) رقم الخطبة 81/3.

فمن كل ذلك نستخلص بأن المركب له أجزاء وهذه الأجزاء قد تنشأ منذ بداية وجوده وقد تلتحق وتتفرع عنه فيما بعد أيْ تظهر فيه كأجزاء ضمن نموه والأجزاء هذه هي حادثة مركبة أيضاً ويمكن فصل عناصر المركّب بعضها عن بعض كالمواد الكيمياوية المركبة ضمن تركيبة معينة من مواد متعددة تظهر بشكلٍ معين ولو غيّرنا التركيبة بتغيير مقادير العناصر المشتركة لتغيّر الناتج، فذرتان من الهيدروجين مع ذرة أوكسجين تنتج لنا مركب الماء وبالعكس يمكن فصل الهيدروجين عن الأوكسجين بإمرار المركب بالتيار الكهربائي فتعود التركيبة إلى طبيعتها في الهواء. ومن هنا نقول إن الأزلي يستحيل أن يكون مركباً لأن المركب حادث. وكذلك نقول إن الأزلي لا يتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال على العكس من المركب فالحادث مركب يتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال فيزداد وينقص وتنفصل منه بعض العناصر أو تزداد فيه على ضوء ما تستجده الظروف بينما الأزلي يبقى كما هو لا يتغير ولا يتبدل مهما تقدم الزمن وتبدل الظرف.

يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته رقم 184: (وإن الله سبحانه، يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات. فلا شيء إلا الله الواحد القهار. الذي إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها. ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها..).

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي

الأزلي سرمدي في وجوده أي أبدي خالد لا ينعدم والحادث يفنى وينتهي فالشجرة مثلاً كانت بذرة أو فسيلة فتغيرت وتبدلت إلى أن صارت شجرة مثمرة ثم تبدأ بعد فترة من الزمن بالعد العكسي حتى تنتهي وتموت وتحرق أخشابها أو تستخدم لاغراضٍ أخرى.. فإذن الحادث عكس الأزلي حيث أن الحادث ينتهي ويفنى ويعدم من الوجود بينما الأزلي يبقى كما هو لا ينعدم.

فقد قال الله في محكم كتابه الكريم: (كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). [سورة الرحمن: الآية 26 - 27].

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة

الأزلي لا يحتاج إلى غيره مهما كانت الظروف والأحوال عكس الحادث فإنه يحتاج في وجوده إلى علة وسبب وفي استمراريته كذلك يحتاج إلى علة فالإنسان يحتاج إلى خالق وموجد وأسباب موضوعية ويحتاج إلى أسباب المعيشة كي يستمر في وجوده من أكل وشرب وعناية فإذا مرض فهو بحاجة إلى طبيب يعالجه وفي أيام البرد يحتاج إلى التدفئة والملابس المناسبة وفي حالة التعب يحتاج إلى الراحة والنوم وفي الجوع يحتاج إلى طعام بينما الأزلي لا يحتاج إلى سبب في الإيجاد ولا في استمرار وجوده فهو غني عن العالمين لا يحتاج الراحة والنوم وأسباب العيش كما قال عز وجل في محكم كتابه:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم...). [سورة البقرة: الآية 255].

فهو غني عن عباده وعن كل شيء آخر بينما الحادث فقير في وجوده واستمراره إلى غيره كالإنسان فهو محتاج إلى خالق يوجده وإلى عوامل استمرار وجوده من الماء والهواء والطعام وأسباب النمو والعيش فقد قال القرآن العظيم:

(لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد). [سورة لقمان: الآية 26].

والآن لنأتي إلى أصحاب نظرية: (أزلية المادة) ونسألهم أولاً ماذا تقصدون بالمادة؟ هل تقصدون بها التراب والجبال والأشجار والماء والبحار والسماء والأرض أي أن مقصودكم من المادة هذه الطبيعة المحيطة بنا، فإن كان كذلك فسوف نصطدم حينما نمرر هذا المعنى على الصفات - آنفة الذكر - ففي الحقيقة إن هذه الموجودات تتصف بصفات الحادث لا بصفات الأزلي على الإطلاق.

فحينما نعرّف المادة بأنها (كل شيء يشغل حيّزاً في الفراغ وله وزن) من هذا التعريف نفهم أن المادة تتصف بصفات الحادث ولا يمكن أن تتصف بصفات الأزلي بأي شكل من الأشكال فالتعريف يشير إلى أن المادة بحاجة إلى مكان فهي ليست غنيّة عنه ولها وزن فلو أخذنا أية مادة - في الوجود - أو أي قدر مشترك بين المواد كلها كالذرات مثلاً فالذرة ذاتها مركبة من الإلكترونات والنيوترونات وتصنف المواد عبر عدد ذراتها وعناصر الذرات أيضاً إلى تصانيف متعددة وتقرّ لنا الفيزياء بأن هذه العناصر قد تتغير طبيعياً ويمكن تغييرها بالعوامل الخارجية فمثلاً أشعة (كاما) تتحول إلى عنصر آخر حينما تفقد بعض بروتوناتها إثر الإشعاع وعنصر اليورانيوم يتحول إلى الراديوم وإلى الرصاص على التوالي بواسطة الإشعاع وحتى أن الأشعة (أشعة كاما) يمكن أن تتحول إلى ذرات مادية بعناصرها - إلكترونات وبروتونات - وإذا اصطدم العنصران فيها تتحول إلى طاقة.

وكما مضى في مركب الماء H2O يتحلل الماء إلى عنصريه الأوكسجين والهيدروجين بتمرير التيار الكهربائي وهكذا نرى أن الطاقة تتحول إلى ذرات مادية والذرات المادية تتحول إلى طاقات فالقنبلة النووية أو الذرية القائمة على قاعدة الانشطار الذري والتفاعل المتوالي والقنبلة الهيدروجينية التي تنفلق بدمج القنبلة الذرية بنوى ذرة الهيدروجين من هذا الدمج تتولد طاقة هائلة وحتى الطاقة هذه تتحول من حالةٍ إلى أخرى فالطاقة الكهربائية تتحول إلى طاقة ميكانيكية كما في تشغيل المكائن الميكانيكية بواسطة طاقة الكهرباء والطاقة الكهربائية يمكن تحويلها إلى طاقة كيمياوية - كما مر - في تحليل الماء إلى عنصريه بواسطة التيار الكهربائي وهكذا.. فأصحاب هذه النظرية ذهبوا إلى أن العالم ينتهي إلى ذرات متناهية في الصغر هذه الذرات تستمد قوتها وحركتها من الأثير أو من الخلاء الموجود في الكون حيث القاسم المشترك لكل الذرات.

هذه الذرات هي أصل الكون وتمتاز بالصلابة القصوى التي لا تتجزأ وهي كذلك تتحرك وتسبح في الأثير بحركة ميكانيكية منتظمة وبسبب هذه الحركة ظهرت في الكون أشكال متعددة للمادة. فإذن تكون المادة أزلية وهي أصل الوجود.

والرّد الواضح على أصحاب هذه النظرية حيث أنهم قالوا بأنها ذرات صلبة لا يمكن أن تتجزأ أرادوا بذلك تصعيد الذرات إلى الصفات الأزلية وأنها لا تقبل التركيب ولكن لا يخفى على أحد وخاصة في تطور العلم الحديث - كما مر معنا - يقسم الذرات إلى عناصر وجزئيات متعددة ويحوّل الذرة المادية إلى طاقة والطاقة إلى ذرة ثم حينما فرضوا وجود الخلاء أو الأثير وبنوا عليه آراءهم وطموحاتهم الفلسفية في الوجود ما سألوا أنفسهم من أوجد الأثير وهل أن هذه الذرات المادية الأزلية كما يزعمون هي في غنىً عن هذا الأثير؟ ثم إن هذه الذرات تتغير في الواقع المادي من شكلٍ لآخر وتفنى كذلك والذي يتغير ويفنى هو حادث متغير محتاج وليس أزلياً.

وأما نظرية المادية الديالكتيكية (الجدلية) فتتلخص بأن (كارل ماركس) الذي يعتبر تلميذ (هيجل) الفيلسوف الألماني (1770 - 1831) قد أخذ نظريته الجدلية من أستاذه (هيجل) لكنه أبدلها من الحالة التصويرية المثالية الناكرة للمذهب المادي إلى الحالة المادية وهنا أتذكر أحد الأساتذة نقل لنا كلمة من (ماركس) وهي: لقد وجدت (هيجل) منكوساً على رأسه فأحببت أن أعدله - أي يعدل أستاذه من التوجّه المثالي إلى التوجه المادي فكان يرى (هيجل) أن الوجود سراب لا حقيقة له في الخارج والحقيقة موجودة في عالم الفكر بشكل متناقض (وجود وعدم وجود) إثبات ونفي فكل فكرة تثبت في الذهن تحمل نقيضها في داخلها فلا شيء موجود في الخارج. أما (ماركس) فقد سحب هذا التفسير إلى المادة فذهب إلى أن الحركة ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى الإنسان.

ويذهب (ماركس) إلى أزلية المادة وأنها أبدية خالدة لا تفنى ويؤكد الماديون بأن المادة تحمل في داخلها حركة ذاتية مضادة لما هو الواقع ومتناقضة معه وهذا يفسر لنا تغير المادة من شكلٍ إلى آخر وهم لا يقصدون بالتناقض هو الوجود والعدم وإنما هو الصراع الذي يؤدي إلى انتقال الشيء بسبب ذاتي من القوة إلى الفعل كما يقول المناطقة كما الرجل الشاب هو بالقوة نعتبره أباً ولكنه بالفعل ليس بأب إلا أن يتزوج ويخلف أبناءً فيكون أباً بالفعل فهذه النقلة من حالة إلى أخرى تسميه الفلسفة الماركسية بالتناقض!

فمما تقدم تؤمن الفلسفة المادية بأزلية وأبدية المادة لأنها لا تفنى وإنما وجودها نبعي ذاتي لا وتحتاج إلى علة موجودة فهي أزلية أبدية - كما يتصورون - وهي لا تفنى ولا تستحدث من العدم - كما يقولون -.

والأمر المطروح على الماديين هو ان المادة المتطورة من حالة لأخرى بفعل التناقض الداخلي هل أنها بحاجة إلى من يعطيها هذه القوة لأجل التحول والتغيير أم لا؟ ثم إن المادة التي تتغير كما يقولون من حالة لأخرى قد فقدت شرطاً رئيسياً من شروط الأزلي وهو الثبات وعدم التغير ثم إنها حينما تحمل في داخلها النقيض يعني أنها مركبة في وجودها من ذاتها ومن نقيضها والمركب ليس أزلياً وتجيب المادية الجدلية بأن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى طاقة وإشعاع ومن الإشعاع تتحول إلى حالة مادية فتختفي حالة لتظهر حالة أخرى وهكذا فالأمر يعود إلى الطاقة التي تتحول من شكل لآخر دون فناء فبما أنها لا تفنى فلا تحتاج إلى علة الإيجاد فعليه تكون المادة أزلية خالدة.


ونحن على ضوء الكشوفات الحديثة نرد على هذه النظرية حيث ثبت علمياً ان الطاقة كما الذرة تفنى.. يقول عالم الطبيعة البيولوجية (فرانك ألن) كما جاء في كتابه (الله يتجلى في عصر العلم). قوانين الديناميكية الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً وإنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ويومئذٍ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام (فناء) عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت).

أما (كبسيل) عالم الحشرات في نفس الكتاب يقول: (فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً... وإن لهذا الكون بداية).

ويقول العالم الكيمياوي (كوثران) (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال والفناء ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية)(1).

على ما تقدم نلمس أن فكرة أزلية المادة التي نادى بها (ماركس) عبر التناقض الذاتي الموجود داخل الذرات غير صحيحة علمياً وبذلك ينتهي مفعول النظرية لأنها ما استطاعت أن تثبت أزلية المادة بشتى طرقها.




2 - نظرية الصدفة في خلق العالم:

هنالك نظرية تقول بأن الموجودات والكائنات في العالم خلقت صدفة من دون خالق والذي نفهمه من الصدفة - هنا - أحد المعنين فالمعنى الأول هو المعنى الشائع اجتماعياً كما لو تلتقي عزيزاً فارقته منذ فترة طويلة من دون سابق تخطيط ففي أثناء مرورك بالسوق تلتقي به - مثلاً - فتقول: صدفة التقيت به من دون سابق إنذار أو خطور في الذهن بل كان اللقاء عفوياً ومثال آخر أنك تبحث عن حاجة مفقودة وعزيزة عليك وأنت ماض في أعمالك فجأةً تشاهدها أمامك تقول صادفتها صدفةً فهذا المعنى وبهذا التوجه لا يمكن أن ننكر العوامل المسببة لهذا اللقاء المفاجئ مع الشخص الصديق أو الحاجة المفقودة فهنالك أسباب طبيعية متعددة رتبت هذا اللقاء منها الخروج في هذا الوقت ولهذا المكان وخروج صديقي متزامناً معي ولكل دوافعه الذاتية والشيء الذي يمكن تسجيله هو أن هذا اللقاء تم، ولكن دون قصد أونيّة أو تخطيط في الذهن، وبهذا المعنى لا مناقشة لنا فيه لأنه خارج عن بحثنا بل سنناقش المعنى الثاني الذي يدخل في صميم بحثنا.

والمعنى الثاني هو ما يذهب إليه البعض من الفلاسفة والمفكرين ويقصدون بالصدفة أن الأشياء والوجودات في العالم وجدت دون سبب أو علة للإيجاد وإنما من طبيعتها الوجدان والظهور أو الفقدان والضمور فليست مرتبطة بأي جهاز تخطيطي أو عقل مدبر ومخطط وبالطبع يقدّم هؤلاء الصدفيون أدلتهم على دعواهم تلك، وتتلخص أدلتهم بأنهم ما شاهدوا بداية التكوين والخلق فلذلك لم يحصل لهم الجزء بوجود علل للخلق والوجود وأنهم حالياً يشاهدون الموجودات باختلاف أنواعها مخلوقة ولها قوانينها المعينة.

(كلّ في فلك يسبحون). [سورة الأنبياء: الآية 33].

وهذه القوانين الخاصة بكل عنصر في هذا الكون الرحب إنها مستمرة في نظامها بشكلٍ طبيعي ومنضبط ولا تتوقف عن عملها إلا بعوامل خارجية كالجاذبية والضغط الجوي كما يذهب إلى ذلك نيوتن فالتفاحة تسقط من الشجرة إلى الأرض بعوامل الجاذبية الأرضية فينتهي عملها ضمن قانون الشجرة لقانون خارجي آخر وهذه الاستمرارية التي نراها في نظم الكون دون علة ودون سبب بل من طبيعتها ذلك فهي وجدت دون علة وسبب وبقيت دون ذلك أيضاً فإذن وجدت صدفة واستمرت كذلك صدفة وينسحب هذا التصور إلى كل الوجود والخلق فإن هذا العالم وجد صدفة من كبير أجزائه إلى صغيرها كما أجاب أحدهم حينما سئل عن القميص الذي يرتديه بقوله أن هنالك حقول القطن وجدت صدفة في أرضٍ معينة وبمرور الزمن نضجت المحاصيل القطنية وأينعت فما المانع أن تجئ الرياح الشديدة على هذه المحاصيل وتقطف القطن من الحقول وبالفعل أخذت القطن صدفة ثم ساقته إلى آفاق السماء وهنالك في الآفاق العليا وبعد مرور ملايين السنين وعلى أثر تقلبات الجو في طبقات السماء العليا وفي وسط الأمطار والرياح العاتية تمتّ تصفية القطن من كل شائبة وبمرور الزمن تلونت هذه القطع القطنية المنتظمة بألوان عديدة ثم فصّلت بأشكال وأحجام مختلفة وبتنسيق دقيق وبألوان زاهية وبمرور الزمن أخذت الرياح تعيد الأمانة إلى أهل الأرض - صدفةً - وما المانع في أن يوماً من الأيام يكون الإنسان على سطح داره رافعاً يديه إلى السماء وصدفة يأتي القميص الذي فصّل ورتّب مناسباً للجسم ضمن مقاييسه المعينة وصدفةً يدخل في يديّ - أنا مثلاً - وتدفعه الرياح ليستقر في جسمي كما ترى ثم نلاحظ وإذا به قميص قطني جميل ملوّن بالشكل المناسب.

يقول (هلسكي): لو جلست ستة من القرود على آلات كاتبة وظلت تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات ظلت تدور المادة لبلايين السنين)(2).

أما الرد على أصحاب هذه النظريات فيأتي في عدة نقاط أهمها:

1 - إن قانون الاستمرارية الذي يستدلون به على أنه بلا سبب فيسحبونه إلى نكران السبب الأول للإيجاد، كيف يمكن أن نصدق ذلك وننكر علة الاستمرار في النظام؟ بل العكس فإن سبب الاستمرار يمكن أن نسحبه إلى وجوب إيجاد علة أولية لهذا النظام المستمر ثم إن قانون الاستمرارية لا ينكر وجود العلة في الإيجاد، وفي الاستمرار أو في التوقف عن الاستمرارية فلا أحد ينكر علة وجود النظام في الكون والمسألة فطرية سواء كانت المادة ساكنة أو متحركة فإنها ساكنة لسبب وتتحرك لسبب وتقف عن الحركة لسبب آخر فمن غير المنطق أن نضع قانون الاستمرارية سبباً لنكران علة الوجود فلا ربط بينهما بهذه الصورة.

2 - ثم في مثال (هلسكي) نفسه حيث جلوس القردة وطبعها بالآلة على الأوراق آلاف أو ملايين السنين كي تنتج قصيدة لشكسبير وفي الحقيقة أن هذا المثل يناقض فكرة اللاسبب فهو من جانبنا نحن المنكرين للصدفة في خلق العالم وليس من جانب الصدفيين حيث إن القصيدة هذه جاءت عبر تفاعلات عدة أسباب وعلل لإنتاجها فالقرود والضرب على الآلة الكاتبة والآلة نفسها والحبر والورق والزمن كلها أسباب تتفاعل لإنتاج هذه القصيدة - إن وقع ذلك - فلا نستطيع أن نقول إن القصيدة طبعت من وحدها صدفة دون سبب.

3 - ثم إننا حينما نقف أمام الأنظمة الكونية الدقيقة التي يحدثنا العلم الحديث عن عظمتها وإبداعها لحريٌّ بنا أن نقف منها موقف المتأمل الواعي فلو نظرت إلى نفسك بإمعان وبدقة لأعدت النظر في هذه النظرية من جديد واعتبرتها من المسليات الذهنية للإنسان الجليس كحكايات ألف ليلة وليلة، ويكفي أن نعرف أن في كل عين للإنسان توجد أربعة عشر مليون خلية عصبية لو تغير موقع عصب من هذه الأعصاب - لا سمح الله - أصيبت العين بمرضٍ معين يشخصه المتخصصون.

هل تقول إن هذه العين وجدت صدفة وتعمل وتستمر في نشاطها صدفة دون أية أسباب وعلل، فهل يعقل؟ أن أضرب رجلاً على وجهه بقوة وأدعي في المحكمة أن يدي صدفة ارتفعت وصفعت وجه هذا الرجل بقوة من دون أي سبب بل الصدفة والصدفة وحدها لعبت دورها وهي علة الضرب!!

ماذا ننتظر من هذا الإدّعاء إلاَّ أن يأمروا بي للسجن أو إلى مستشفى المجانين ويقولون لي - بعد ذلك - إننا جئنا بك إلى هذا المكان صدفة دون سبب وستستمر فيه دون سبب أو علة هل يصدّق عاقل ذلك؟

وفي كتاب (العلم يدعو للإيمان) مثال جيد يقول فيه (كريس موريسون) المؤلف والعالم الأمريكي (لو تناولت عشر قطع وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرةً أخرى فإمكان تناول القطعة رقم 1 في المحاولة الأولى 1/10.

وإمكان تناول القطعة رقم1، متتابعين هو1/ 100.

وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام 1، 2، 3 متتالية هي نسبة 1/1000.

وفرصة سحب 1، 2، 3، 4 متتالية هي 1/ 10.000.

وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول 1 - 10 بنسبة واحد إلى عشرة بلايين محاولة).

وعلى هذا نجزم بأنه من المستحيل أن يكون وجود العالم وما فيه من الصدفة كما لا يقبل بهذا التفسير أبسط إنسان على وجه الأرض حينما تعتدي عليه أو تسرق منه شيئاً بحجة الصدفة العمياء فلا يقبل عاقل بذلك ولا أية محكمة في العالم ترضى أن تكون الصدفة دليل البيّنة للمدّعي فمثلاً: يسرق إنسان ما بعض المجوهرات والذهب ويدّعي أنها صدفة دخلت جيبه دون سببٍ آخر، فبالتأكيد إنه أمر مردود من الأساس لأن قانون العلية مسألة بديهية فطرية لا يستطيع أحد نكرانه وفي حالة النكران ستهدم كل أسس العلم والبداهة.

فكيف لو نظر الإنسان إلى هذا الكون الرحب بدقته وعظمته وقوانينه المعقدة الداخلية وعلاقته بالعالم الخارجي ضمن ضوابط دقيقة فهل ينظر إلى نظرية الصدفة نظرة اعتبار. والكون كله يدل على الخالق المبدع. فلذا سنتحدث عن بعض الأدلة العلمية في الأحاديث القادمة بعونه تعالى.




3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود:

بعد أن توصلنا فيما سبق إلى أن نظرية أزلية المادة ونظرية الصدفة في خلق الوجود لا تقومان على أسس علمية وعقلية وتمّ تفنيدهما والآن نريد أن نتوصل إلى معرفة (علة الوجود) وما هي الاحتمالات في هذه العلة فلو أخذنا أنفسنا مثلاً وتساءلنا من الذي أوجدنا؟ وما هي الاحتمالات في علة خلقنا وسبب وجود أنفسنا؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نقرر أن أنفسنا ما كانت مخلوقة سابقاً ثم وجدت أي أننا قبل الولادة للدنيا ما كنا موجودين في هذا العالم حالياً نحن موجودون وكلٌ منّا يعرف عمره أي بداية وجوده وحتى اللحظة الراهنة. فنحن ما كنا في الوجود وحالياً موجودين وفي يومٍ ما ستنتهي حياتنا: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) كما يقول القرآن الكريم في سورة الرحمن: الآيتان 26، 27.

وفي حديث للإمام الرضا (عليه السلام) حينما سئل عن الدليل على وجود الله فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك..). وهكذا يحصر الإمام احتمالات المبدع والخالق ومن ثمّ يحاور السائل ويطلب منه أن يحاور نفسه أيضاً لكي لا يقع تحت تأثير معين بل يضفي أجواء الحرّية ليتوصل السائل إلى الحقيقة بملء إرادته.

وبعد تلك الملاحظة وهذه الرواية وأمثالها الكثير، نعيد التساؤل الأول من الذي أوجدنا؟ وقد اتفقنا على أننا ما كنّا في الوجود فوُجدنا فما هي احتمالات الموجد لنا؟ والاحتمالات ثلاثة لا رابع لها وينطبق نفس الأمر على العالم بأسره وعلى الطبيعة المحيطة كلها ودعنا الآن ندرس الاحتمالات الثلاثة:

الاحتمال الأول: نحن أوجدنا أنفسنا ونحن دبرنا جسمنا وروحنا وكيّفنا ظروفنا في الولادة والدوام ضمن هذا النظام الحياتي.

الاحتمال الثاني: إن الذي أوجدنا هو مثلنا فأفاض علينا بالوجود.

الاحتمال الثالث: إن الذي أوجدنا ليس مثلنا.


أما الاحتمال الأول

فهذا لا يمكن أن نصدّقه لأننا أثبتنا سلفاً عدم وجودنا قبل أن نوجَد فكيف أوجدنا أنفسنا من العدم؟ أي حينما آمنا ببداية زمنية لوجودنا فقبلها ما كنا موجودين فوجُدنا بمعنى اننا في مرحلة زمنية كنا عدماً ثم صار لنا وجوداً فالذي يكون عدماً ثم وجوداً ثم عدماً لا يمكن أن يكون - هو - قد أوجد نفسه أو أفناها، هذا أولاً وثانياً لو - جدلاً - نحن أوجدنا أنفسنا لأوجدناها كاملة دون نقص غير ضعيفة ولا محتاجة إلى الموجودات والأشياء الأخرى في الحياة ومن ثم لاستطعنا أن نُبقي أنفسنا دون أن نموت لأن الإبقاء أسهل من الإيجاد والإبداع والخلق علماً بأن الموت والفناء أمر محزن للإنسان وبالفعل - وقهر عباده بالموت والفناء - والإنسان يحب البقاء في الحياة ولكنه من المستحيل التحكم في فترة البقاء ودرء الأجل أو أبعاده وتأجيله.

(يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة) [سورة النساء: الآية 78].

وهكذا نرى في الوجدان إننا لا نستطيع إعادة الحياة إلى أعزّ الخلق إلينا مهما أوتينا من قوة علمية وحتى أنفسنا لا نستطيع أن ندافع عنها حين الضرر الصحي فضلاً عن الموت فنرى البعض مُبتلى بالأمراض الجسمية أو النفسية وأما الموت فحتميته أمر لابد منه وقد قال سبحانه وتعالى:

(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة..). [سورة آل عمران: الآية 185].

فإذا لم نستطع دفع الضرر والإبقاء على النفس من الفناء فقطعاً نحن لا نستطيع أن نوجد أنفسنا فالمسألة - فعلاً - خارجة عن إرادتنا وكيف لا نصدّق ذلك والحال نحن لا ندري ماذا في أجوافنا واحشائنا وداخلنا وحتى المتخصصين في تشريح جسم الإنسان يقفون موقف المتحير لعظيم الصنع والإبداع في الكيان الإنساني العجيب.

قال سبحانه: (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون). [سورة الطور: الآية 35].

وبالفعل إن هذه الأمور التي لا يمكننا أن نتحكم فيها كما لا يمكن لأي أحد أن يختار جنسه ولون شعره ولون بشرته وطوله وحتى مسقط رأسه ومكان موته كذلك، قال عز وجل:

(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت..). [سورة لقمان: الآية 34].

فكيف يمكننا أن نوجد أنفسنا من العدم:

وهكذا ينتهي الاحتمال الثاني أيضاً بأن الذي أوجدنا هو مثلنا! بمعنى آخر لو كان الذي أوجدنا مثلنا ويتصف بأوصافنا لاستطعنا نحن كذلك أن نوجِدَ خلقاً مثلنا وهذا الأمر لا يدعيه عاقل فضلاً عن الجزم والاعتقاد به وإذا كنا غير قادرين وكلّ منا غير قادر أن يوجد مثله فيأتينا الكلام السابق وهو عدم استطاعتنا على أن نبقيهم كما هم عليه الآن والحال أن الكثير من أصدقائنا واعزائنا يموتون ونحن نتقطع أسىً وغصة عليهم دون أن نقدر على إبقائهم وإعادة الأرواح إلى أبدانهم ومؤكد أن هذا العمل أقل بكثير من الإيجاد التام للإنسان فلذا ينفجر الإنسان بكاءً على فقدان أحبائه وهذا عمل المقهورين وعمل العاجزين تنفيساً عن الألم - وقهر عباده بالموت والفناء -.

فإذن نحن لا نستطيع أن نوجد أمثالنا ولا أمثالنا يستطيعون أن يوجدونا هذا من الناحية العملية أما إذا رجعنا إلى حديثنا الماضي في أن أصل الوجود لابد أن يتصف بصفات الأزلي لا الحادث المصنوع والمحدود فنقول إن أنفسنا أو أمثالنا لا يمتلكون صفات الأزلي بل يتميزون بصفات الحادث حيث التغيير والحاجة إلى الغير والتركيب وكلها من صفات الحادث.

فإذن نحن لسنا قادرين على أن نوجد أنفسنا ولا أن نوجد أمثالنا قطعاً ويقيناً. وهكذا لابد أن يكون لهذا الكون الرحب العجيب بنظامه ودقته ولهذا الإنسان العجيب بأجهزته الدقيقة لابد أن يكون من أوجده ليس مثله وإنما يتمتع بصفات الأزلي الأبدي كاملة وسبحانه الذي يقول في محكم كتابه:

(فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). [سورة الشورى: الآية 11].

فالوجود كما نراه (الكون والإنسان) لابد أن يوجده الذي يستوعبه بالكامل أي بمستوى رفيع من الصفات الخاصة التي تنتج هذا الإبداع لا أن يكون الموجِد (بالكسر) بمستوى هذا الوجود إبداعاً أو أقل منه مستوىً! فالكمال المطلق صفة الموجِد الأكبر الذي يحتوي ويستوعب كل الوجود ويسيِّر قوانينه ويتحكم في خلقته ومصير العالم وحقاً إن الطريق لمعرفة الخالق للكون يبدأ من معرفة النفس فالذي يريد أن يعرف خالقه يجب أن يعرف نفسه والأسرار المودعة فيه ليرى عظمة الموجد لها والمدبر لقوانينها (فمن عرف نفسه فقد عرف ربه) كما ورد في الأثر، وبعد أن نتعرف على عظمة الموجد والمبدع لهذه النفس الإنسانية ولهذا التكوين الإنساني ولهذا الوجود الكوني ندرك تماماً إن الموجودات ناقصة رغم عظمتها ومحدودة رغم آفاقها قياساً بالخالق المبدع فهو ليس مثلنا وبالتالي نستنتج أن ما هو موجود في أنفسنا وفي الوجود العام ليس موجوداً في خالقنا العظيم لأنه (ليس كمثله شيء) كما مرّ معنا.

فأنا محدود والخالق ليس محدوداً، فأنا عاجز والخالق قادر وأنا محتاج والخالق غني عن كل شيء وأنا أنتهي وأفنى بنهاية زمنية والخالق لا ينتهي بزمن وأنا كانت لي بداية والخالق ليست له بداية فهو أزلي أبدي سرمدي خالد.

فهو واحد أحد (ليس مقابل الاثنين والثلاثة والأربعة) بل هو واحد أحد لا نظير له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا شبيه له ولا مثيل.

سئل الإمام الرضا (عليه السلام) ما الدليل على وجود الله؟ فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كونك من هو مثلك.. ثم قال: إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانياً فأقررتُ به..)(3).

فإذن لا أنا أوجدت نفسي يقيناً وبتجرد ولا أوجدني الذي هو مثلي يقيناً وبتجرد أيضاً ويبقى الاحتمال الثالث الذي لا خيار غيره وهو أن الذي أوجدنا ليس مثلنا - والآن قد تكون اللغة قاصرة عن التعبير الدقيق لهذا المعنى وحتى العقل الإنساني كذلك قاصر عن أن يصل لمعرفة كنه الخالق الكريم - وبين اللغة والعقل في قصورهما يمكن أن نخرج بنتيجة علمية واضحة وهي أن الذي أوجدنا ليس مثلنا أما كيف يكون؟ وما هي ماهيّته وكنهه؟ هذا ما أجاب عليه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (اللهم... حمداً لا ينقطع عدده ولا يفنى مدده فلسنا نعلم كنه عظمتك إلاَّ أنا نعلم أنّك حي قيوم لا تأخذك سِنة ولا نوم... لم ينتهِ إليه نظر ولم يدرك بصر أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال...).

هذا هو الدليل من داخل أنفسنا ولنا حديث عن الأدلة الخارجية عن النفس ونكتفي بالإشارة هنا إلى تكملة حديث الإمام الرضا (عليه السلام) علّنا نفصّل في الأدلة الخارجية في الصفحات القادمة إن شاء الله قال (عليه السلام): (... فأقررتُ به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات... علمت أن لهذا مقدِّراً منشئاً..).

ويجيب الإمام علي (عليه السلام) ببساطة عن إثبات الصانع فقال: (البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة لا يدلان على اللطيف الخبير؟) هذا ونحوه محكي عن الأعرابي..(4).



4 - الله هو الخالق وحديث الأدلة:

بعد أن عرفنا شيئاً من نظرية أزلية المادة والصدفة وحديث الاحتمالات توصلنا إلى أن الإنسان المؤمن لابد أن يمتلك القناعة بمبدإه كي يتمسك به كلياً وإلاَّ تبقى المسألة عقدة مترسخة في باطن الإنسان هذه العقدة تنفجر سلباً في حالات العسرة والضيق لأنها تفتقد الأرضية المطلوبة لغرض توفير القناعة التامة ولذلك لابد أن نبحث بحريّةٍ واطمئنان هذه القضية المهمة لنوفر لأنفسنا الحل السليم لهذه العقدة ومن هنا يعرِّفُ بعض الأساتذة العقيدة بالعقدة الكامنة في شعور الإنسان متى ما توصل إليها مطمئناً صادقاً انجلت عقدته ومثله مثل الإنسان إذا ضيع شيئاً عزيزاً عليه فيبحث عنه بحثاً دقيقاً فمتى ما وجده تنتهي عقدته ويستريح ضميره ووجدانه فانحلال العقدة بوجود الهدف الذي كان ضائعاً، حينها تتحول العقدة إلى عقيدة يؤمن بها الإنسان فقد قال سبحانه:

(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). [سورة الرعد: الآية 28].

فحالة التمسك بالعقيدة والمبدأ منشأُها القناعة بهذه الأفكار والمعتقدات ونحن يمكننا أن نستدل على وجود الخالق المدبر المهيمن عن طريق وجودنا مرةً وعن دليل خارج عن وجودنا مرةً أخرى حيث نرى عظمة الإبداع والتدبر وسنن هذا الكون الفسيح.

وبداهة أن الأثر يدل على المؤثر والمصنوع يدل على الصانع والدقة في الأثر والنظام في المصنوع يدلان على قدرة الخالق وعظمته كما أنك حينما تشاهد بناءً متواضعاً من طابق أرضي واحد ليس فيه إلاَّ باب واحد وغرفتان ولواحق بسيطة للبيت تقول لابد من بانٍ ومصمم لهذا البناء المتواضع وكذلك حينما تشاهد ناطحات السحاب ذات المصاعد الكهربائية فترى الدقة في التشييد والتنسيق ما بين الطوابق والسلالم الكهربائية فلابد أن تقول أن هنالك عقولاً هندسية واعية أنتجت هذا العمران الضخم وعليه لا نمنح صفة العقل الهندسي المتطور للبيت المتواضع الأول كما نمنحه لمصممي ناطحات السحب وهكذا فمن خلال عظمة الخلقة والإبداع التي نراها في داخلنا ودقة الأنظمة الكونية خارجنا نتوصل إلى معرفة الذات الإلهية المقدسة والمدبرة لهذا الوجود والمتصفة بكل صفات الكمال والجمال والجلال.

وقبل أن نتطرق لحديث الأدلة نلفت انتباه القارئ الكريم إلى مسألة مهمة وهي هل إن الله سبحانه علة العلل في إيجاد الأشياء والوجودات؟ أم أنه ليس كذلك. والعلة إما أن تكون علة تامة أو علة ناقصة فإذا قلنا بأن الله سبحانه هو العلة الناقصة فالمفروض وجود غير الله لإيجاد بقية العلل ولإيجاد الكون وأما إذا قلنا علة تامة لازم هذا أن تكون الموجودات قديمة بقدم الله لأن المعلول لا يفارق علته أبداً، والحال نحن أثبتنا عملياً ووجدانياً وعلمياً بأننا لم نكن موجودين سابقاً فؤُجِدْنا في الكون فيما بعد وهكذا الوجودات المستقبلية حالياً هي عدم ولكنها ستوجد في المستقبل بمعنى نحن لسنا قدماء كما يريد ذلك الفرض على ما يذهب إليه بعض الفلاسفة.

فلو كان معنى أن الله علة تامة يقودنا - كما يذهب البعض - إلى قدم الوجودات بقدم الله على مستوى وجود الشركاء له سبحانه فنحن نرفض هذا المعنى ونرفض الانقياد مع هذا البعض وراء النتيجة الساذجة. وكذلك أن الله سبحانه ليس علة ناقصة للزوم اشتراك غير الله مع الله لتتكون العلة التامة المسببة للوجود والخلق والإبداع.

من كل ذلك نستنتج أن الله سبحانه ليس علة تامة - كما تذهب النتيجة السابقة التي تُوصِلنا إلى قدم الموجودات وإلى أن علية الله تعني سلب القدرة عنه فكلما تحققت العلة التامة يتحقق المعلول دون اختيار العلة التامة ودون السيطرة على هذا الإنتاج وبالتالي سلب القدرة منه (سبحانه). بل العكس فإنّ الله تعالى هو مختار يفعل ما يريد فقد قال عز وجل:

(إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). [سورة يس: الآية 82].

فكان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الأشياء ثم يميت الخلائق وهو على كل شيء قدير بعيداً عن كونه (عز وجل) علة تامة أو ناقصة على النتائج التي نخرج بها.

والآن نحاول أن نسلط الضوء على الأدلة:

أولاً: حديث وجودنا:

يقول القرآن المجيد: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مضغةً فخلقنا المضغةَ عظاماً فكسونا العظامَ لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14].

ويقول سبحانه في آيةٍ أخرى: (هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم). [سورة آل عمران: الآية 6].

ويقول أيضاً: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون). [سورة الملك: الآية 23].

الإنسان بأجهزته ومظهره وخلاياه وغدده يعد أكبر معمل منظَّم ومنتج في العالم حيث يؤدي واجباته على أحسن ما يرام وفيه أسرار ترى العلم راكعاً أمامها.

يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). [سورة التين: الآية 4].

فإضافة إلى أنه جهاز معقد في غاية التعقيد فإن أجهزته تتداخل وظيفياً فيما بينها فجهاز يخدم جهازاً آخراً بشكلٍ منسق ودقيق ومن المؤكد أن الأجهزة تقع تحت تأثيرات الحالة النفسية وبالعكس فالشعور واللاشعور النفسي يتبادلان مع أجهزة الإنسان وإفرازات غدده في كافة الأجهزة المختلفة ضمن تنظيم دقيق فكل عضو له وظيفته المعينه يؤديها لصالح الإنسان العام في النمو والبناء ولنستمع إلى أقوال بعض العلماء في هذا الصدد يقول (مورسون) العالم الطبيعي (خذوا جسم الإنسان فإنكم ستجدون فيه من الخلايا بعدد عشرة ملايين مليار خلية وهذا هو العدد المتوسط للخلايا في جسم شاب في مقتبل العمر)(5).

أما في كتاب (الطب محراب الإيمان) يذكر أن هناك ثلاثة عشر ألف مليون خلية عصبية أي 13 مليارد خلية عصبية في الجهاز العصبي وحده والخلية بحد ذاتها بناء محيّر مدهش وهذه كلها تعمل بشكل دقيق محكم متناسق متعاون لتأدية الأغراض الحيوية والفكرية وأن هناك 750 مليون سنخ رئوي يعمل لتصفية الدم وذلك بإمرار غاز الأوكسجين من الخارج إلى الدم الأسود الوارد من البطين الأيمن من القلب وهناك الكِلْية وهي الجهاز المنقّي للدم من الجهة الثانية وفيها واحات صغيرة جداً لا ترى إلاَّ بالمجهر حيث يتفرع الشريان الذي يغذّي الكلية إلى فروع دقيقة جداً حتى يصل إلى تفريع شعري لا يرى إلاّ بالمجهر يلتف حول نفسه ليشكل ما يعرف بالكبد وفيها يمر الدم ببطءٍ شديد ويتصفى بالرشح في الكلية قرابة 200 لتراً من الدم يومياً ويعود ليمتص مرة أخرى بواسطة الأنابيب الكلوية التي يمر منها قرابة 198 ليتراً وهذه الكبب يصل عددها إلى المليون في الكلية الواحدة تقوم بتصفية مئات الألتار من الدم يومياً وإن الروعة تكمن في الغدد وفي البناء وفي كيفية العمل وفي الروعة الهائلة لتخليص الإنسان من السموم التي تدخل جسمه)(6).

أما عن القلب فقد جاء في كتاب (الإعجاز الطبي في القرآن): القلب هو دعامة الجسم وقوام الحياة وعضلاته متصلة بعضها ببعض في مدمج خلوي لا تفصل بين خلاياه جدر خلوية كما هو معروف بين خلايا الحيوان والنبات ولعل هذا التكوين الخلقي للعضلة القلبية قد جعلها مؤهلة تماماً للعمل كوحدةٍ واحدةٍ يتواتر إيقاعها بقوة وانسجام لا إرادياً ولا دخل فيه، وهذه الحركة القلبية شديدة الإعجاز بطبيعتها. والعضلة القلبية شديدة النشاط موفورة القوة دائمة العمل دائبة الحركة لا تكلّ ولا تملّ لا تسأم ولا تهرم لا يتأثر انقباضها تأثراً بيّناً بائناً بالتخدير الكلي أو النصفي كما إنها لا تصاب بالسرطان والقلب يضخ في اليوم الواحد ما يقرب من ثمانية آلاف لتر من الدم يدفعها إلى مسافة تقدر بنحو عشرة آلاف ميل وتصل ضربات القلب السليم في اليوم الواحد إلى 115200 ضربة أو خفقة وتصل في الشهر الواحد إلى 3.456.000 من ثلاثة إلى أربعة ملايين ضربة أو خفقة.

أما عن حركة القلب فأثناء انقباض الأذين الأيمن ينبسط البُطين الأيمن وينغلق الصمام الرئوي وينفتح الصمام الثلاثي ليمر الدم من خلاله إلى البُطين الأيمن وعند انقباض البطين الأيمن ينغلق الصمام الثلاثي وينفتح الصمام الرئوي الذي يندفع الدم من خلاله للشريان الرئوي ومنه إلى الرئتين(7).

وأثناء انقباض البطين الأيسر ينغلق الصمام الرئوي وينغلق الصمام الميترالي وينفتح الصمام الأورطي حيث يندفع الدم خلاله بقوة انقباض البطين الأيسر إلى الشريان الأورطي ثم إلى جميع أجزاء الجسم.

أليس هذا بإعجاز طبي هندسي رائع بديع؟

وأما لو كشفنا عن بعض الأسرار التي كانت غامضة فيما مضى والعلم الحديث كشف عن أهميتها جديداً مثلاً غدة (تيموس) وهي غدة صغيرة في القفص الصدري وتقع فوق البلعوم وقد كانت غير معلومة الأهمية واعتبرها البعض عضواً لا فائدة فيه ولكن قد عُلم اليوم بأن للغدة دور كبير في توفير الحماية والمقاومة والدفاع لبدن ضد العناصر الأجنبية المهاجمة ويعتقد البعض ان لها تأثيراً على الفعاليات الجنسية ونمو البدن بعد البلوغ وباستئصالها تبدو الأعضاء الجنسية بحالة الخمول ويتأخر حصول البلوغ.

أما غدة (أبي فير) فهي أعقد من تيموس وتقع داخل الدماغ وكان البعض من العلماء لا يتصور لها فائدة ولكن اليوم تبين لها التأثير على النشاطات الجنسية والبلوغ وأما اللوزتان حيث كان الأطباء يرون لا فائدة لهما ويأمرون باستئصالها كثيراً، تبين اليوم أنهما تعملان على تزويد الجسم بالكريات البيضاء ومهمتها الدفاع عن الجسم والوقوف بوجه الميكروبات فهي تشكل مراكز حِجر صحي أو حصناً منيعاً يقف في مداخل الطرق التنفسية إذ تنقي الهواء من الميكروبات. وحتى الزائدة الدودية فقد توصل البعض إلى أن الزائدة الدودية يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في الدفاع ضد السرطان ويمكن أن يؤدي استئصالها عند غير الضرورة إلى ظهور السرطان ونقلاً عن مجلة (جاما) استئصال الزائدة الدودية في الأشخاص المؤهلين للابتلاء بالسرطان له تأثيرا ملحوظ في ذلك ويمكن أن يكون باعثاً على حدوثه في الجسم(8).

ولو جئنا إلى جهاز السمع عند الإنسان لوقفنا على إنجاز هائل وجبار حتى إنه وضعت نظريات تشرح لنا كيف تستقبل الأذن الصوت وكيف تحلله من خلال جهاز السمع واعضائه فنستطيع أن ندرك جهة الصوت ونميز الأصوات بعضها عن بعض وندرك البعد المكاني لهذا الصوت.

والمتتبع لهذه الحاسة يدرك عظمتها من خلال الدراسة الدقيقة لأجزائها فهي مقسمة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأذن الخارجية وهي مؤلفة من صيوان الأذن (الجزء الغضروفي الخارجي) ووظيفته جمع الاهتزازات الصوتية ونقلها بأمانة إلى داخل الجهاز والجزء الثاني هو القناة الموصلة بين الصيوان والطبلة.

أما الأذن الوسطى فتنفصل عن الخارجية بغشاء رقيق (طبلة الأذن) وتتألف هذه الأذن من عظام السمع (المطرقة والسندان والركاب) وغشاء الطبلة هذا مادته من أفضل الأجسام إيصالاً للصوت فيمتاز بالرقة وهذه الميزة مفيدة للنقل لكنه معرض للتمزيق من زيادة الضغط الخارجي فاتقاءً من هذه الخطورة صار من ورائها انبوب يوصل بين الأذن الوسطى والجزء العلوي من الحلقوم ويسمى (قناة أو بوق أوستاكيوس) وهذه القناة تنظّم الضغط على الطبلة ومن خلالها يتم تفريغ الافرازات فلولاها لتراكمت الافرازات وأفسدت الأذن.

والعظيمات هذه (المطرقة والسندان والركاب) متصلة بعضها ببعض بشكلٍ هندسي متنظم تستلم الذبذبات الصوتية من الطبلة بشكلٍ فنيٍ وتسلّمها للعظم التالي ومن ثمّ يطرق نافذة القوقعة (الأذن الداخلية) مكبرة للصوت بما يعادل قوة الذبذبة الأصلية اثنين وعشرين مرة.

فلو تعطلت العظيمات عن العمل لسببٍ ما فهنالك البديل المؤقت لاستلام الصوت وهو (الكوة المستديرة) الواقعة بين الأذن الوسطى والداخلية ولم تتصل بالعظيمات تلك فهي أداة احتياطية يستفاد منها وقت الحاجة بشكلٍ أوتوماتيكي.

ثم يلاحظ أن العظام مصنوعة من أجسام صلبة جيدة لتوصيل الصوت، وأنها منفصلة عن عظام الرأس لتحتفظ بالاهتزازات من التسرب.

أما الأذن الداخلية فهي مؤلفة من عدة دهاليز وأقنية وسلالم وتسمى (التيه) وأوله دهليز بيضوي الشكل متصل بغشاء (الكوة البيضاء) وفي الدهليز أنبوب حلزوني يحتوي على محور مركزي على شكل عمودي وتلفه قناة محيطة بالمحور مرتين ونصف وفي القناة (هذه) صفيحة رقيقة بعضها عظمي وبعضها غشائي وهي تشطر القناة المحيطة بالمحور إلى شطرين وفي داخل القناة جهازان:

أحدهما: يتصل بغشاء الكوة البيضوية ليستلم الاهتزازات عن طريق العظام ويسمى بـ (السلم الدهليزي).

والثاني: يتصل بغشاء الكوة المستديرة ليستلم الاهتزازات عن غير طريق العظام ويسمى (بالسلم الطبلي) وهناك يقع عضو (كورتي) وهو التركيب المتخصص بالتحسس وذلك في غور القوقعة (القناة المحيطة) وعلى القسم الأعلى من عضو كورتي توجد أربعة صفوف من الخلايا الشعرية وهذه الصفوف تحتوي على تركيب جلاتيني يسمى بالغشاء الغطائي وتنقسم هذه الصفوف بتراكيب تشبه العصي إلى صف داخلي وثلاثة صفوف خارجية وتحت الخلايا الشعرية تتفرع نهايات الألياف العصبية السمعية التي يقدر عددها بثلاثين ألف نهاية ويقول ذوو الاختصاص (ولا يعلم على جهة اليقين كيف يتأتى لعضو (كورتي) أن يحوّل الذبذبات إلى دفعات عصبية)(9).

ولا يسعني هاهنا إلاَّ أن أردد وأطيل النظر في كلمات مولانا أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد فيقول: (.. وما الذي نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك نصفه من عظيم سلطانك وما تغيّب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه وحالت ستور الغيب بيننا وبينه أعظم..)(10) اكتفي بهذا القدر من النماذج في الاستدلال من وجودنا وداخلنا وأما في استدلالنا من خارج أنفسنا فيمكن القول فيه:

إن ما نراه من دقة ونظام وعظمة لهذا الكون المليء بالأسرار والأعاجيب يكفي أن يوصلنا إلى وجود المدبر المبدع الخالق وعظمته. ففي الأفلاك والبحار والحيوانات والنباتات بل في كل شيء يخطر ببالنا تتجسد عظمة الخالق فيه ودقة نظامه وتدبيره مما يبهر الإنسان على مستوى المعرفة والعلم والبداهة بحيث لا يستطيع أحد أن يجيب حينما يسئل عن المبدع والمدبر والخالق إلا أن يقول الله تبارك وتعالى وفي هذا المجال يقول القرآن المجيد:

(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنّى يؤفكون). [سورة العنكبوت: الآية 61].

وفعلاً لو فكر الإنسان فيما يجري حوله من قوانين ونظم تيقّن بوجود الخالق والمدير والمدبر:

(أفلاك ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت. فذكر إنما أنت مذكر). [سورة الغاشية: الآيات 17 - 21].

يقول سيدنا الإمام علي (عليه السلام): (... ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق له السمع والبصر وسوَّى له العظم والبشر انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها تنقل الحبة إلى حجرها وتعدها في مستقرها تجمع من حرّها لبردها وفي ورودها لصدرها مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً. فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها لم يشاركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الأدلة إلاَّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاَّ سواء وكذلك السماء والهواء والرياح والماء فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات... فالويل لمن جحد المقدر وانكر المدبر... وهل يكون بناء من غير بانٍ أو جناية من غير جان)(11).

أما الذي نراه في الكتب الحديثة حول عظمة الخالق وتدبيره فهو كثير فلنقف على بعضه فقد جاء في كتاب (الله والعلم الحديث): (هذا الأوكسجين الذي إذا زاد زيادة طفيفة لسبّب فــناء العـــالم بمـــا يسبـــّبه من اخــــتلال في كثافــــة الهواء... فتتهاوى الكواكب والأجرام)(12).

علماً بأن نسبة الأوكسجين في الهواء 21 % فلو صارت النسبة 30% مثلاً لاختلّ النظام في الحياة وتبدّلت موازين الاحتراق لأن الأوكسجين يساعد على الاشتعال ففي هذه النسبة المفترضة يساعد على الاشتعال بشكلٍ غير طبيعي مما يسبب الحرائق الفادحة في كل مكان وان الكون بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة في صورة لا يكاد المرء أن يتخيلها حتى يدركه البهر)(13).

ويقول أنشتاين - العالم المعروف - (وكما أن الساعة اليدوية لابد لها من صانع صنعها أو مخترع اخترعها كذلك الطبيعة لابد لها من مبدعٍ قدير ابتدعها بقدرته وأنشأها بحكمته وهو الخالق العظيم).

ونرى الكون الرحب بما في فضائه الفسيح من كواكب وأفلاك تسير ضمن خطة دقيقة كلٌ قد عرف طريقه ومسلكه وقانونه وبعبارة أخرى كتلٌ من الأنظمة والدساتير والموازنات في الحركة والتأثير والجاذبية المتوازنة بصناعة دقيقة جداً في المسيرة والتحرك.

يقول عزّ من قائل في محكم كتابه العزيز: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون). [سورة يس: الآية 40].

وفي آية أخرى: (والسماء رفعها ووضع الميزان). [سورة الرحمن: الآية 7].

فمثلاً يذكر علماء الطبيعة والفلك إن قطر الشمس 864.000 ميل وهذه الشمس شرارة في مجرة درب التبانة (مجموعتنا الشمسية تعتبر جزءاً منها) وتتخلل نجوم هذه المجرة وكواكبها كميات كبيرة جداً من الغاز معظمه هيدروجين وغبار وربما كانت كتلة الغاز والغبار المنتشرة في المجرة تعادل كتل النجوم كلها(14).

ومجرتنا يحددون قطرها نحو 100.000 سنة ضوئية(15).

وفي بعض التقارير العلمية أكثر من ذلك وهذه مجرتنا ليست وحدها في الفضاء ويؤكد قسم من التقارير العلمية انه قد تم كشف على الأقل عشرة بلايين مجرة أخرى وهذا يعتمد على قوة الجهاز الكاشف ولدى بعض التقارير إن عدد المجرات مئة ألف مليون مجرة(16).

يقول الله سبحانه: (والسماء بنيناها بأييدٍ وإنّا لموسعون). [سورة الذاريات: الآية 47].

وفي دائرة المعارف قولٌ للعالِم نيوتن هو (كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصياغة البديعة ولأي المقاصد وضعت أجزاؤها المختلفة هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت... وهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود إله منزّه عن الجسمانية حي حكيم)(17).

وبهذا نكون قد وضحنا الأدلة من داخل الإنسان في بيان جزءٍ من أجهزته وأوضحنا أيضاً بعض الأدلة من خارج الإنسان وحديث الأدلة حديث شيق أدعو المؤمنين لمطالعته في مختلف الكتب المعنية.


5 - وقفة مع الشبهات والرد عليها:

الشبهة الأولى: وخلاصتها:

إن الحواس الخمس هي النوافذ الطبيعية للمعرفة ولحصول العلم وعلى رأس الحواس حاسة البصر فهي الحجة القاطعة ونحن بصراحة لا نرى الله وعليه لا نستطيع أن نؤمن بشيءٍ إلا نراه.

والجواب: هؤلاء يعتقدون أن مصدر المعرفة لديهم هو الدليل الحسي البصري عبر التجارب ويضاف له السمع، الشم، اللمس، الذوق فكل معرفة لا تمر عبر هذه القنوات تعتبر من الأوهام واللاواقعيات - (وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحس والتجربة فيجب أن نطرحها جانباً وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف)(18).

ونقول في الإجابة أيضاً: إننا لا ننكر دور الحس في المعرفة الإنسانية ولكن نقول ليست المسألة كلها متعلقة بالحس وإنما للإدراك العقلي الدور الأهم في المعرفة، (فنيوتن مثلاً حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة لم يكن قد أحس بتلك القوة الجاذبية بشيء من حواسه الخمس وإنما استكشفها عن طريق ظاهرة أخرى محسوسة لم يجد لها تفسيراً إلا بافتراض وجود القوة الجاذبة)(19).

فصحيح أنه رأى بعينه التفاحة التي سقطت إلى الأرض وتساءل لماذا ما صعدت إلى السماء ولكنه افترض على هذا البناء الحسي أمراً غير ملموس أو محسوس ألا وهو أمر الجاذبية الأرضية التي لا تخضع للحواس الخمس بأية صورة من الصور وإنما أدركها من خلال آثارها بدليل عقلي واضح فلو أزلنا مبدأ العلية العقلي كما يرغب أصحاب المذهب التجريبي لوقعنا في فخ الصدفيين، ومع ذلك فإن الحواس هذه قد تخطئ كما في مسألة السراب وقد تختلف من فرد لآخر ومن ظرف لآخر مما يجعل لهذا الاختلاف ظهور الواقع العلمي عند البعض ونكرانه عند البعض الآخر، يقول الدكتور فؤاد صروف في مقال نشرته مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثاني: (إن علماء الطبيعة في هذا العصر رأوا بعقولهم ما لا يمكن أن يروه بعيونهم أو بمصوراتهم الضوئية).

فاكتشف علماء الطبيعة أسراراً لم تكتشفها الحواس وعلى رأسها العيون فلو سايرنا المذهب التجريبي أكثر نلاحظ أنه لا يستطيع أن يثبت قواعده في المعارف الموجودة في العالم إلاَّ بالاعتماد على القواعد العقلية مثال ذلك التعليل وكشاهد عليه مثلاً نلاحظ أثر النار في تبخير الماء كسائل له مواصفات معينة وليس كل السوائل لأن الماء يتكون من مكونات مهيّأة للتبخر نتيجة الحرارة فكل سائل يحمل نفس المواصفات يتبخر بالحرارة وهكذا قاعدة التعميم على كل المياه في العالم. فالتعليل والتعميم وأمثالهما من القواعد العقلية هي التي تدفع بالتجارب الحسية نحو الأمام وهذه القواعد عقلية ولولاها لاحتجنا إلى تكرار كل التجارب وعلى كل السوائل كما في مثالنا.

وهكذا نرى العقل يرمم المعرفة الحسية من مواقع القوة أما أصحاب هذا المذهب فهم يذهبون إلى أن الحواس هي المصدر لكل المعارف وهنا نتساءل هل هذه القاعدة حصلوا عليها عبر التجربة أم لا؟ وفي هذا الصدد يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا) (صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة فإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني أنها قضية بديهية وأن الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة وإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها)(20).

فبالنتيجة نلاحظ أصحاب هذا المبدأ يطبقون قواعد عقلية من حيث لا يشعرون إضافة إلى أن كثيراً من الخبرات والتجارب والعلوم جاءتنا عبر التاريخ ونحن نؤمن بها دون أن نراها أو نشهدها وقد نحصل عليها بطرق غير حسيّة فالمغناطيسية والكهربائية والجاذبية وأمثالها نؤمن بها دون أن نراها بالعين أو نشمها بالأنف أو نلمسها باليد. فإذن ليست الحواس هي النافذة الوحيدة لمعارف الإنسان بل هي النافذة الاعتيادية للمعرفة بينما يبقى العقل هو البداية الرئيسية لمعارف الإنسان وهكذا تتلاشي هذه الشبهة أمام أشعة العقل والعلم الحديث فليست علومنا ومعارفنا عبر الحواس فقط هي التي آمنا بها.


الشبهة الثانية: لكل وجود في العالم علة إيجاد لابد منها فمن أوجد الله سبحانه؟

وقبل الإجابة أتذكر قولاً للفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه لماذا ليست مسيحيا؟ (فكما أن لكل شيءٍ علة وسبب لابد لوجود الله أيضاً من علة ودليل ولو أمكن لشيءٍ أن يكون بلا دليل ولا علة لأمكن أن يكون هو الله أو العالم وعلى هذا فالبحث عن الله يفقد اعتباره).

ويقول (هربرت اسبنسر) الفيلسوف البريطاني (المشكلة هي أن العقل البشري يفتش لكل أمر عن علة وهو يرى استحالة الدور والتسلسل ولا يرى علة بلا علة ولا يفهمها).

فبالنتيجة يمكن أن نقول إن مبدأ العلية هو قانون لازم لكل مناحي الوجود ولا يمكن أن يكون شيءٌ موجوداً دون علة أو سبب وحينما نفترض أن هنالك شيئاً وجد دون علة أو سبب فهو نوع من أنواع الصدفة في الخلق وبهذا الأسلوب يصنفون الأيديولوجية الإسلامية ضمن نظرية الصدفيين حيث أنها تعتقد بوجود الخالق والمدبر الرئيسي صدفة بمعنى كونه موجوداً بلا علة أو سبب، وصحيح أن الإسلاميين يقدّمون مقدمات طويلة وعريضة بلا بُدّية العلة ويعرضون عن نظرية الصدفة جانباً ويهزأون منها بأدلة علمية دامغة ولكنهم حينما يَصِلون إلى حصن الرب الخالق تتهاوى القواعد العلمية التي ساروا عليها فهنا - وبالذات في موضوع الله - تسقط العلية والسببية تماماً حيث وجد الله من دون علة ومن دون سبب بل هو علة العلل ومسبب الأسباب وهذا ما لم يقرّه العلم ولم يقرّه الإسلاميون أنفسهم في بداية البحث وقبل الوصول إلى حصن الخالق وبالمناسبة يقول الدكتور العظم في كتابه (نقد الفكر الديني): لنفترض أننا سلّمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة هل يحل ذلك المشكلة؟... أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها (الله) وأنا أسألك - بدوري - وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود وهنا أجيبك ولماذا لا نفترض المادة الأولى غير معلول الوجود؟ وبذلك ينحسم النقاش دون اللجوء إلى الغيبيات وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لدينا على وجودها (الميتافيزيقية) ويستمر قائلاً: (إن أقصى ما تستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أن وجود الله غير معلول ومن جهة أخرى عندما تسألني ما علة وجود المادة الأولى؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أنها غير معلولة الوجود)(21).

وعلى هذا سنقرّ بجهلنا في معرفة الوجود الأول وحسب ما يدّعي الدكتور العظم وأصحاب هذا الرأي أن الطريقيْن مسدوديْن بنتيجةٍ واحدةٍ متساويةٍ ومتعادلة.

وبالفعل إنها شبهة مؤثرة حينما تثار في الأوساط العامة تجد من يصغي لها ولكن هؤلاء مثلهُم مثلُ القائل لخصمه (عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياء) وللإجابة على هذه الشبهة نتبع طريقة أساتذتنا في شرح النظريتين (نظرية الوجود) و (نظرية الإمكان الوجودي) ثم الردّ العام على هذه الشبهة التي تعد من الشبهات الرئيسية التي يلتزم بها الماديون وبعض الماركسيين بالذات وأنها السبب في تغيير عقائد بعض الشباب نحو الأفكار الهدامة والسلوك الملتوي.


أما الآن فلنتعرف على النظريتين:

(أ) نظرية الوجود:

هذه النظرية ترى حتمية احتياج الموجود إلى علة توجده، هذه النظرية مستندة على التجارب العلمية في كل الميادين كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء، مثلا ذلك غليان الماء بالحرارة وتمدد الحديد بالحرارة فالحرارة هي علة الغليان للماء والتمدد للحديد ولولا هذا القانون (لكل موجود علة) لجاءت الصدفة واحتلت المنطق العلمي التجريبي - كما يقولون - ويمكننا أن نناقش هذه النظرية ونردها عبر ما يلي:

1 - إن التجربة كمصدر رئيس لمعرفة العلة - هذا ما لا يقرّه العلم والعقل - حيث إننا نعرف أن التجربة لها حدود خاصة في التطبيق الميداني أي لها حقل خاص وهو الحقل المادي من الوجود - فاعتبارها مقياساً علمياً يكشف عن العلة والسبب في عموم الوجود هذا أمر بعيد عن الدقة العلمية حيث إن الوجود ليس ماديّاً فقط وإنما جزء منه يخضع لعنوان المادة وعليه تطبق التجربة كالغليان وتمديد الحديد بالحرارة - كما مر - أما أننا نوكل الوجود الكبير لهذا المقياس الذي لا يستطيع استيعابه بالتجربة وحدها لغرض كشف العلل! فهو أمر شاذ! حيث إن الوجود مليء بأمورٍ غير مرئية كالجاذبية والمغناطيسية والأرواح وما شابه ولو سلّمنا جدلاً بالتجربة وقدرتها على بيان كل العلل والأسباب لكل الوجود ففي الحقيقة أن التجربة تكشف عن أسباب الظواهر المادية كالغليان والتمدد لا أكثر فهي تربط بين عدة عوامل كالنار والحرارة والشمس بمكونات مادية معينة كالحديد فتكشف عن العلاقة التي تعتبرها علة للتمدد أما لماذا الشمس أو الحرارة تعمل هذا العمل؟ ولماذا الحديد له هذه القابلية دون غيره؟ هذه تساؤلات تعجز التجربة عن الإجابة عليها.

أما الوجودات غير المرئية فتعلن التجربة إفلاسها وتستسلم أمامها لأنها لا تستطيع أن تمدّ يديها إلى العمق الغيبي وهو أمر واقعي - دون شك - كالجاذبية والمغناطيسية وما شابه.

2 - أما ربط الإلهيين بالصدفة ولو بدرجة متأخرة - كما يقول البعض - لقلة الشجاعة لدى الإلهيين فيرفعون الصدفة عن الوجود المادي ليضعوها على المصدر الأول للوجود وهو الله! في المسألة خلط واضح إذ أن المصدر الأول الذي يؤمن به الإلهيون يتصف بصفات الأزلي والأبدي وهذه الصفات تجعله يكون واجب الوجود لا يحتاج لشيء... أما الصدفة في الخلق فهي لا تتصف بصفات الأزلي والأبدي وإنما هي محتاجة لظروف عديدة وممكنة فإذا ظهرت أو انعدمت ضمن الإطار الخاص بها نسميها صدفة وجدت دون حضور ذهني أي يتعادل الوجود والعدم بالنسبة لها ككفتي الميزان أما المصدر الأول للوجود في العقيدة الإلهية ليس هكذا بل أن المصدر واجب الوجود وضروري الوجود وممنوع العدم لا إنه ممكن الوجود وممكن العدم كالصدفة.

3 - نظرية الوجود تبحث عن علة الوجود دون أن تعتني بعلة العدم ويظهر من بعض المؤمنين بذلك - أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم وإنما المركبات حين تحولاتها تفقد كثيراً من خصائصها فالعدم هذا يقرّه العلم ويقرّ كذلك بلا بُدّية السبب في الانعدام، فالماركسيون الذين يدّعون أزلية المادة يقرّون في نفس الوقت أنّها تتغير وتتحول من حالة لأخرى وأنها لتفقد بعض العناصر من مركباتها بالتحول أو تهرب منها بعض العناصر أثناء التفاعلات الكيمياوية. والعلم يقر ذلك بالاتفاق فإن هذه التغيرات والتقلبات ليست من صفات الأزلي الأبدي فحينما تستسلم النظرية المادية أمام العلم الذي يذهب إلى أن للوجود بداية وللمادة بداية وأنها تتحول من حالة لأخرى وتتجدد وتنعدم وتُفنى وتُستحدث، نرى أصحابها يشنّون حملة شعواء على العقيدة الدينية نتيجة رد الفعل السلبي من قرارات العلم وعلى نفس المستوى والأسلوب، بينما العقيدة الدينية تقرّ بأن الصفات الأزلية والأبدية المتفق عليها لا تناسب المادة المتغيرة حسب ما يقرّه العلم بل تناسب ما يصفه الدينيون بالخالق المدبر الذي لا يكون مادة ولا يحتاج لعلة ولا يفتقر لسبب بما أن ذلك من ضرورات المادة الفانية.

(ب) أما نظرية الإمكان الوجودي:

وكما مرّ في تقسيم الوجودات إما أن يكون واجب الوجود لذاته وهو لا يحتاج إلى علة في وجوده لذلك فهو واجب الوجود وإما ممتنع الوجود لذاته وهو لا يحتاج في عدمه إلى علة وإما ممكن الوجود والعدم فيحتاج في وجوده إلى علة ويحتاج في عدمه إلى علة كذلك فعلاقة الارتباط بين العلة والمعلول(وجوداً أو عدماً) يرجع إلى الإمكان الوجودي فكل ممكن الوجود يخضع للعلة في إيجاده أو في عدمه وبما أن المادة ممكنة الوجود فلا هي واجبة الوجود لذاتها ولا ممتنعة الوجود لذاتها كما مر معنا الحديث المؤيد علمياً.

فإذن إن المادة تحتاج إلى علة أو سبب للإيجاد كما تحتاج إلى علة أو سبب للفناء والعدم.

وحيث إن الله سبحانه ليس ممكن الوجود فهو واجب الوجود لذاته كما قرر الإلهيون فلا يحتاج إلى علة لإيجاده. فإذن نستطيع أن نخرج من هذا البحث بأن الوجود العام لهذا الكون والكائنات يحتاج إلى مصدر أو سبب أو علة للإيجاد ولابد أن يكون هذا المصدر متصفاً بصفات الأزلي الأبدي فهو واجب الوجود بذاته وإلا سنصل إلى التسلسل والدور الباطلين عقلاً.

فلذا نرى أن الماديين يطلقون على المادة صفات الأزلي وأنها واجبة الوجود لذاتها وقد تبين أن العلم يعترض على ذلك وان المادة غير متصفة بصفات الأزلي وبما أن افتراض هذا الأزلي والمصدر الرئيس للوجود هو بين أمرين لا ثالث لهما إما المادة وإما الله سبحانه كما يذهب الإلهيون. وبما أن المادة والوجود الطبيعي في الحياة لا تخضع لصفات الأزل فإن صفات الأزل هذه تنطبق على القدرة الكبرى التي هي الله سبحانه.

غاية المسألة - إننا كبشر - لا يمكننا أن نتصور وجوداً لواجب الوجود بذاته تصوراً مادياً قائماً كرؤيتنا للمواد الأخرى - ولا يمكننا أن نتصور وجوداً دون سبب وعلة وذلك لأننا ألفنا الحياة القائمة على العلة والمعلول مباشرة فتصورنا أن هذا قانون لا يمكن تجاوزه. والحال أن الأدلة العقلية والعلمية تشير إلى ضرورة واجب الوجود والذي أفاض على الكون كله هذا الوجود الحي. فهو الموجود دون علة سابقة بل هو علة العلل في الوجود.


الشبهة الثالثة:

إن من طبيعة الأشياء والوجودات التي نشاهدها أمامنا موجودة وفاعلة في الحياة بطبيعتها أوجدت نفسها بنفسها والوجود أوجد نفسه بنفسه من دون الحاجة إلى سبب أو علة فلماذا نبحث بجهد عن علة الوجود الأولى ما دام الأمر لا يحتاج لهذا التعب فالوجود بطبيعته موجود وله قوانينه الطبيعية من الولادة حتى الممات.

وللجواب نقول: سبق أن قررنا وتحدثنا في الإجابة على الشبهة الثانية نلاحظ أن منطوق هذه الشبهة يساعد ما قررناه هناك حيث يقول المنطوق منذ الولادة وحتى الممات أي من الوجود المسبوق بالعدم إلى العدم والفناء المسبوق بالوجود وقلنا لازال الوجود يُحكم بالإمكان فهو محتاج إلى المصدر الأول في الإيجاد كما يحتاج إلى علة للإبقاء وعلة للإفناء أيضاً.

ونحن نعتقد أن الوجود هذا سبقه عدم فإذن لهذه المادة والطبيعة بداية محددة فإذن هذا الممكن بحاجة إلى علة وسبب للإيجاد وسبق أن أوضحنا في احتمالات العلة الموجدة للأشياء وقلنا في إحدى الاحتمالات أن الوجود أوجد نفسه والطبيعة أوجدت نفسها والإنسان أوجد نفسه، فالطبيعة الكونية هي التي أوجدت نفسها بنفسها ووضعت قوانينها بنفسها وعالجنا الموضوع في مكانه. وقررنا أن العلة الأصلية يجب أن تتصف بصفات الأزلي الأبدي وهذه الصفات لا تنطبق على المادة والطبيعة بأية صورة من الصور فهي فقيرة ومحتاجة إلى الموجد أي العلة الباعثة والمسببة للإيجاد. قيل للإمام الرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال (عليه السلام): (إنك لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوِّن نفسك ولا كونك من هو مثلك..)(22).


الشبهة الرابعة:

انطلاقاً من مفهومي الزمان والمكان فأين الله ومتى وجد؟

وللجواب على هذه الشبهة نؤكد مراجعة الشبهات الماضية التي تعطي الرؤية الحقيقية للإيمان بالله سبحانه وحينما نقرّ بصفات الأزلي والأبدي يجب أن نبتعد عن الأمور المألوفة والمتكررة أمامنا في الحياة والمطبّقة في العالم المادي أما الواجب الوجود لذاته والأزلي الأبدي لا يحيطه زمان ولا يشغله مكان بل هو الذي يحيط بكل الأزمنة وبكل الأمكنة فهو ليس محتاجاً لصفتي الزمان والمكان وصفة الاحتياج للظرف الزماني والمكاني تنطبق على العالم المادي الذي نحسه ونلمسه. أي الحادث وهذا غير الأزلي كما هو المعروف.

والمشكلة أن العقل البشري لا يستطيع أن يتصور هذه المسألة لأن تصوراتنا هي انعكاسات الحياة المادية فبشكل طبيعي نقيس الأمور على ضوء القوانين المادية التي ألفناها وهذا مما يضطرنا أن نقرّب الفكرة بالأمثلة الشائعة اليوم كالجاذبية الأرضية أو جاذبية الكواكب في الفضاء والكهربائية والمغناطيسية وعالم الأرواح وصفات الصدق والكرم كل ذلك هل يحده مكان أو يقيسه زمن - طبعاً - هذه الأمثلة لتقريب الفكرة فقط والذي نريد أن نقوله أن هنالك وجودات خارجة عن حدود الزمان والمكان وواجب الوجود لذاته لا يخضع لهذه الحدود إطلاقاً وفي الرواية المارة الذكر عن الإمام الرضا (عليه السلام) حينما يسئل كيف الله وأين هو؟ فقال (عليه السلام): (.. هو أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بالأينونيّة ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء..) فلما سأله متى كان أجاب الإمام (عليه السلام): (أخْبِرني متى لم يكن فأخبرك متى كان)، وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): (.. ظاهر في غيب وغائب في ظهور لا تجنه البطون عن الظهور ولا يقطعه الظهور عن البطون قَرُبَ فَنَأَى وعلا فَدَنا وظهر فبطن فعلن..)(23) وقال (عليه السلام) أيضاً: (.. ومن قال فيمَ فقدْ ضمنه ومن قال عَلامَ فقد أخلى منه..).

وللدعابة أخبرني أحد الشباب بأن مَلَكَ الموت كيف يأتي لقبض روحي ومن أين يأتي ومتى يأتي؟ وبدأ يحلّل المسألة ويؤكد بأن الجواب على كيف يأتي ومتى يأتي فلا يستطيع تحديده لأنه خارج عن إرادتي أما من أين يأتي؟ فأكّد أن الملك (عزرائيل) يطبق (فاتوا البيوت من أبوابها) فسأغلق الأبواب والشبابيك وامنع مَلَكَ الموت من الدخول عليَّ وبالتالي أمنعه من قبض روحي وبهذا سأسلم منه وأعيش فترة أطول. هذا الفتى ينظر للأمر بعين ساذجة وبريئة فقلت له قول الله سبحانه:

(أينما تكونوا يدركْكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة). [سورة النساء: الآية 78].

ومَلَكُ الموت هذا إن كان ضمن مقاييسنا المادية بالفعل يمكن حصره ومنعه من قبض الأرواح ولكن الأمر غير ما نتصور نحن فهو لا يخضع لهذه القوانين المألوفة لدينا.

وللجواب على متى كان؟ يجيب الإمام الباقر (عليه السلام): (إنما يُقال متى كان لما لم يكن فأما ما كان فلا يُقال متى كان، كان قَبلَ القبل بلا قبل وبعدَ البعد بلا بعد)(24).

وهكذا نتوصل إلى أن الزمان والمكان من مختصات الحوادث أما الأزلي فلا يخضع لمقاييسهما.


الشبهة الخامسة:

إن من الأحاديث العقائدية التي ندرسها ونسمعها ونتلقاها تشاع فكرة مفادها: أن الإيمان بالتوحيد يَطْرد القلق والاضطراب من النفس ويضفي جوّاً هادئاً في الحياة ونحن لا نرى الموحدّين هكذا والشرائع السماوية أصبحت هي التي تفرّق الناس وتصنفهم إلى أقسام ربما تتناحر فيما بينها بالرغم من التقائها بالإيمان بالله عز وجل فنرى الناس المؤمنين يتخبطون في ألوان الشقاء والبلاء والظلم فلا نرى هذا التغير الإصلاحي والسلوكي المزعوم منعكساً من عقيدة التوحيد على الإنسان والمجتمع، وكما لا نلمس الحكمة من الشرائع السماوية ولا نلمس الحكمة في الخلق في بعض الأحيان فما هي فوائد الشرائع وما هي فائدة هذه المخلوقات الضارة؟ التي قد تهدد الحياة أحياناً.

للإجابة على هذه الشبهة يمكن توضيح بعض النقاط الواردة في الشبهة وبمعنى آخر يمكن تفكيك بعض المفاهيم المنطوية داخل منطوق الشبهة وكما يبدو هنالك نوع من الخلط بين ما هو نازل من السماء بعنوان الكتب المقدسة والفكر الديني لغرض هداية الناس وما بين حالة الناس أنفسهم ويجب أن نعلم أن الكتب المقدسة غير القرآن الكريم قد حرّفت فكتب الديانات السماوية لم تعد تمثل رأي الخالق المدبر بما فيها من تحريف وتبديل وأهواء وهي بالنتيجة نسخت بالرسالة الخاتمة وهي القرآن الكريم أي الدين الإسلامي يقول سبحانه في القرآن العظيم:

(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [سورة آل عمران: الآية 85].

ونأتي إلى المسلمين ففي الواقع نحن لم نطبق على أنفسنا القرآن الكريم بالشكل الكامل وإنما أغلب المسلمين جزّأ الإسلام فأخذ ما ينفعه في نواحي حياته الشخصية والاجتماعية وترك ما يكلّفه من واجبات ومسؤوليات وخاصة ما تجسد قيم التضحية والإباء.

هذه الصورة العامة لحياة المسلمين فقد قال عز وجل:

(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب...). [سورة البقرة: الآية 85].

ولا ننكر وجود طبقة واعية مؤمنة تطبق على نفسها القرآن والإسلام، إنما كلامي على الحالة العامة والصورة العامة للمسلمين، وعلى ما نرى من التطبيق الجزئي للإسلام نلاحظ أن المسلمين أفضل من غيرهم من الناحية النفسية فنحن نجني ثمار هذا التطبيق الجزئي للإسلام فمن الناحية النفسية تؤكد لنا الإحصائيات أن حياة المسلمين قليلة القلق والاضطراب وعدم الثبات والانتحار قياساً بحياة غير المسلمين حيث يكثر فيها القلق والانتحار.

والدليل: إن أطباء النفس ودراسات الأمراض النفسية نراها بكثرة هائلة في الدول الأوروبية على عكس الشعوب الإسلامية وهي على علاّتها، وأما لو كان التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية في حياتنا لعشنا في قمة الاستقرار والحضارة والعدالة والازدهار فالسبب الرئيس إذن هو نحن المسلمين المطبقين للشريعة فالحكمة الحقيقية من رسالة الإسلام هي تهذيب النفس الإنسانية وإقامة العدل الإلهي في المجتمع ليسود الإخلاء والحب والسلام والكل يعرف كيف كان المجتمع الجاهلي متناحراً وكيف صار في عهد الرسالة الأول هذه حكمة الشريعة إما حكمة المخلوقات الضارة - نحن قد نعتبرها ضارة ويمكن أن يؤيدنا العرف لدى الكثيرين من أبناء الأرض ولكن من وجهة نظر أخرى نحن لا ندريها قد تكون نافعة ومن قال إن الحكمة تكون دائماً في النفع والفوائد فهناك كثير من الحيوانات نعتبرها ضارة وسامة وهالكة وفي بعض الأحيان هي التي تنقذ الإنسان من أخطار محدقة والكشوفات العلمية تثبت لنا ذلك والبشرية عاجزة عن معرفة الأمور كلها وبمرور الزمن نحصل على اكتشافات عظيمة وجبارة كنا نجهلها سابقاً. وهنالك أمثلة كثيرة في هذا الصدد ففي كتاب (الإسلام يتحدى) مجموعة من هذه الأمثلة منها:

طريقة الحصول على (النتروجين المركب) الذي بواسطته تستطيع النباتات أن تقوم بعملية صنع الغذاء والطريقة هذه تعتمد على الجراثيم التي تعيش في جذور النباتات بباطن الأرض فهي تأخذ النترجين من الجو وتحوله إلى مركب النتروجين ثم تستفيد منه النباتات، وطريقة أخرى بواسطة الرعد وهو الصوت الحاصل في احتكاكات السحب فيمتزج الأوكسجين مع النتروجين ويحصل (المركب) وبالأمطار ينزل المركب إلى جوف التربة، وهكذا اكتشف العلم الحديث حكمة الجراثيم والرعد ولربما لم يكتشف كل الحكمة. فالمشكلة الحقيقية إن الإنسان يريد أن يعرف كل شيءٍ ولكن العقل الإنساني قاصر عن بلوغ الكمال حيث الكمال لله سبحانه وتعالى وحده.


الشبهة السادسة:

ما هي المواد الأولية لهذا الوجود الطبيعي في الكون حيث استطاع القادر بهندسة دقيقة أن يركبها تركيبات مختلفة فظهرت كما نرى، خصوصاً حينما نؤمن بأن للمادة أصل ثابت لا يتغير وهو جوهر المواد فهل دوره سبحانه تركيب وهندسة المواد أم الخلق المبدع؟ فإن كان التركيب فما هي المواد الأولية وهل يمكن أن تتصف بالأزل؟ وإن كان الإبداع فهل يعقل أن الكون وجد بعد عدم تام؟

للإجابة نعود لنقول ما قررناه سابقاً أنّ الإنسان عقله قاصر عن التوصل لمعرفة الإبداع التام لأنه لم يألف ذلك، وهنا أتذكر طريفة بالمناسبة حيث كنا أطفالاً كان يتحدث لنا الكبار بأن آباءهم المرحومين لو كان يخبرهم أحد بأنه في المستقبل من الزمان يستطيع الإنسان أن ينتقل من دولة لأخرى عبر وسائط النقل الحديث وكأنها الغرف المنزلية من دون استعمال الحيوانات لما صدّقونا ولضحكوا علينا بينما نرى اليوم أنّ الغرف هذه سواء كانت القطارات أو السيارات أو الطائرات فإنها تسير دون حيوانات أقول في ذلك الوقت وقبل التكنولوجية الحديثة من كان يصدق؟

وشخصياً لديّ طريفة مشابهة لتلك وهي أنّ أحد أقربائنا من كبار السن والمعمّرين كان يتحدث مرة بأن أول سيارة دخلت مدينة كربلاء مع وفد حكومي ملكي لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فقال: خرجنا لمسافة بعيدة على الخيول لاستقبال الوفد وإذا بنا نرى حيواناً جديداً في تركيبه يمشي على أقدام دائرية واسعة (الإطارات) وللحيوان صوت غريب للتنبيه - لم نألفه - قال أحد الحضور لعن الله الإنجليز حتى حيواناتهم ليست عادية - يقول وقفتْ السيارة ونزل الوفد ففي البداية انهزمنا وانهزمت معنا خيولنا ولكن بعد قليل اقتربنا شيئاً فشيئاً حتى وصلنا إلى الحيوان الجديد فبدأنا نبحث عن فم هذا الحيوان ومخرجه وكيف يرى طريقه وما هو نوع طعامه وما شابه هذه التساؤلات.. لماذا؟ لأنهم لم يألفوا هذا الأمر وبمرور الزمن أصبح مألوفاً واعتياديّاً لذلك حينما نقول أن الله أبدع الكون من لا شيء فهذه القدرة الكبرى التي تميز الله سبحانه عن الآخرين فبقدرته أوجد الأشياء أما نحن فلا نألف هذه الصناعة المبدعة لذا قال الإمام علي (عليه السلام): (.. كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم..) في وصف الله تعالى.

فالكون بما هو حادث وليس أزلياً كما ثبت معنا سابقاً فهو إما وُجد صدفة وأثبتنا بطلان ذلك وإما أوجده سبب مبدع وهو سبحانه. أما نحن فلم نألف هذا الإبداع لأننا لم نعاصره ولم نألفه وكثيراً من الأمور نعترف بها دون معاصرتها أو مشاهدتها. أما كيف نؤمن بأن للمادة أصل ثابت دون تغيير وقد أثبتنا تحول المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة والكل إلى فناء وعدم، هذا الأصل الثابت نسبياً متغير ومتحول ولابد لهذا المتغير والمتحول أي الحادث من مبدع أزلي وقد أوضحنا ذلك في البحوث السابقة.


الشبهة السابعة:

المؤمن بالله سبحانه كيف يمكنه أن يصوّر لنا كنه الله وماهيته في ذهنه وهل يمكنه أن ينقل تصوره لماهية الله إلى أذهاننا؟

والإجابة واضحة فقد مرت بعض الأمور في هذا الصدد سابقاً أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يعرف كنه كل الموجودات في الكون (وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً) فالمغناطيسية والجاذبية والروح الإنسانية كل هذه الأمور لا يعرف الإنسان كنهها وماهيتها بالرغم من أنها حادثة ومخلوقة فكيف يستطيع أن يحيط بقادر عظيم جبار فالمحدود لا يحيط اللامحدود وهذا مما يذكرنا بحديث الإمام الصادق (عليه السلام): (فإن قوماً تكلموا في ذات الله فتاهوا) - وقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في عدة أحاديث نذكر منها قوله (صلى الله عليه وآله): (تفكَّروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره، تفكروا في كل شيءٍ ولا تفكروا في ذات الله)(25).

وعلى هذا يكفي للإنسان المؤمن أن يرى ربّه وخالقه بعقله عبر آثاره الحكيمة فالله سبحانه هو القدرة المطلقة التي أبدعت الخلق ودبرت الكون وسيّرت القوانين فكلها مطويات بيمينه (وما قدروا الله حقَّ قدرِهِ والأرضُ جميعاً قبضتُهُ يوم القيامةِ والسماواتُ مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون). [سورة الزمر: الآية 67].

بهذا القدر يستطيع المؤمن أن يتوجه إلى خالقه بالطاعة والامتثال ويزداد إيماناً كلّما تدبّر في آلاء الله وفي الخلق كما أراد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ذلك.


************************************************** *************

1 - الله يتجلى في عصر العلم، - الكتاب العلمي المعروف -.

2 - الإسلام يتحدى: ص 106.

3 - حق اليقين، للسيد شبر: ج 1 ص 7.

4 - حق اليقين، للسيد شبر: ج 1 ص 7.

5 - مجلة الحوادث عدد 1173.

6 - الطب محراب الإيمان: ص 11.

7 - الإعجاز الطبي، الدكتور السيد الجميلي: ط. بيروت ص 219 وما بعدها.

8 - دروس في أصول الدين: ص 27 وما بعدها - بتصرف - ط. إيران ترجمة محمد علي تسخيري.

9 - الموسوعة الطبية الحديثة: ج4 ص793 نقلاً عن محاضرات في العقيدة للشيخ البهادلي - بتصرف -.

10 - الخطبة 160 -6، المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، محمد رشتي طبع إيران.

11 - نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام)، تحقيق محمد عبده: ج 2 ص 335.

12 - الله والعلم الحديث: ص 21.

13 - الله والعلم الحديث: ص 23.

14 - الكون الأحدب: ص 254.

15 - التكامل في الإسلام، أحمد أمين: ج 3 ص 68.

16 - الكون الأحدب: ص 254.

17 - دائرة المعارف، لمحمد فريد وجدي: ج 10 ص 448.

18 - فلسفتنا، الشهيد محمد باقر الصدر: ص 294.

19 - فلسفتنا، الشهيد محمد باقر الصدر: ص 294.

20 - فلسفتنا، الشهيد محمد باقر الصدر: ص 73.

21 - نقد الفكر الديني، للدكتور العظم ص 28 وما بعدها.

22 - نقلاً عن الزنجاني، بداية الفلسفة: ص 70.

23 - حق اليقين، للسيد شبر: ج 1 ص 13.

24 - حق اليقين، للسيد شبر: ص 29.

25 - ميزان الحكمة، ري شهري: ج 6 ص 165.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-07-2006, 09:55 AM   رقم المشاركة : 8
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

العدل :


ضرورة العدالة في القرآن والسنة :

قال سبحانه وتعالى في القرآن المجيد (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ). [سورة النحل: الآية 90].

وقال عز من قائل: (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). [سورة الروم: الآية 9].

وفي آية أخرى: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). [سورة النساء: الآية 135].

وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط). [سورة النساء: الآية 135].

وفي موقع آخر قال الله العظيم: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين). [سورة الدخان: الآية 38].

وفي سورة الأنعام: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته). [سورة الأنعام: الآية 115].

وفي سورة النساء: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة..). [سورة النساء: الآية 40].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما كرهته لنفسك فأكرهه لغيرك وما أحببته لنفسك فأحبّه لأخيك تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء مودوداً في صدور أهل الأرض).

وقال في حديث آخر (صلى الله عليه وآله): (إن العدل هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا).

وقال الإمام علي (عليه السلام): (العدل أساس به قوام العالم، العدل أقوى أساس، إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه لإقامة الحق فلا تخالفه في ميزانه ولا تعارضه في سلطانه)(1).

والإمام علي في حواره مع عبد الله بن عباس حينما دخل عليه في ذي قار وعلي يخصف نعله، يروي ابن عباس قال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت لا قيمة لها فقال: (والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً)(2).

والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (أما العدل فإن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه)(3).

وفي احتجاج الطبرسي: روي أن قوماً من أصحاب أمير المؤمنين خاضوا في التعديل والتجويز فخرج حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد والوعد لا يكون إلا بالترغيب والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات ليستدلوا على ما ورائهم من اللذات الخاصة التي لا يشوبها ألم ألا وهي الجنة وأراهم طرفاً من الآلام ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخاصة التي لا يشوبها لذة ألا وهي النار فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها...).


************************************************** *****************

1 - ميزان الحكمة، ج6، ص86.

2 - نهج البلاغة، خطبة 33.

3 - الكافي، ج1، ص442.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-07-2006, 09:56 AM   رقم المشاركة : 9
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

الجبر والتفويض


الجبر لغة: الإكراه والإرغام والقهر، واصطلاحاً: هو إكراه وإرغام من قبل الله سبحانه لعباده على فعل الأشياء حسنة كانت أم قبيحة من دون أية إرادة للرفض من قبل العباد.

أما التفويض لغةً: تقول تفويضاً إليه الأمر أي صيره إليه وجعله الحاكم فيه.

واصطلاحاً: إن الله تعالى جعل أفعال العباد حرةً مطلقة يفعلون ما يشاؤون دون أن تتدخل إرادة الله سبحانه في أعمالهم الخيّرة أو الشريرة فهم مستقلون بالقرار والإرادة تماماً وعلى ضوء ما تقدم اختلفت المدارس الفكرية اثباتاً ونفياً لأحد الجانبين فذهبت مدرسة الجبرية إلى أن الله سبحانه هو الخالق المدبر لهذا الكون فكل الأفعال مصدرها منه حيث أنه خلق كل الأشياء الخيرة والشريرة وخلق الكفر والإيمان وكل مظاهر الحياة ومنها أفعال العباد فليس للعباد دور في أعمالهم وإنما هي أعمال الله بكافة أنواعها.

وقدموا مجموعة استدلالات على مذهبهم هذا منها:


أ - إن الله يعلم بما كان وما سيكون من أفعال عباده وكل ما في علمه سيقع حتماً وواقعاً فهو سبحانه يعلم بوجود الكفار سابقاً ولاحقاً فلابد إذن أن يقع الكفر ويستحيل على الكافر أن يغيّر نهجه إلى الإيمان لأن الفرض واقع في علم الله وتغيّره يجعلنا نصفه سبحانه وتعالى بالجهل وهذا مستحيل.


ب - إن إرادة الله عز وجل هي الغالبة وإليها ينتهي الأمر كله فلو أراد الله للإنسان الإيمان وأراد الإنسان لنفسه الكفر والضلال ففي مجال التحقيق لو انتصرت إرادة الإنسان الكافر فكفر هل نقول إن إرادة الله مغلوبة على أمرها؟ أم الأفضل أن نقول أن هذه الإرادة النابعة من الإنسان نحو كفره هي من عند الله فالله هو الغالب بإرادته والإنسان مجبر لتطبيق إرادة الله أي إن الإنسان مجبر على أفعاله ومضطر إليها وبمعنى آخر إما أن نجرد الله من الإرادة الدائمة وإما أن تكون إرادته هي النافذة حتى لو سقطنا في فخ عدم التنزيه. ومن هنا تفسّر بعض الآيات الكريمة على ظواهرها ليدعموا الفكرة الجبرية مثلاً قوله تعالى في سورة النساء، الآية 78: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله) وفي سورة إبراهيم، الآية 4: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء).

فإذن الهداية والضلالة والحسنات والسيئات كلها من عند الله سبحانه! ولا دور للإنسان في ذلك فقد قال سبحانه:

(ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم). [سورة هود: الآية 34].

ومقابل مدرسة الجبرية هنالك مدرسة المفوضة التي تقول بالاختيار على عكس الجبر حيث أن الله سبحانه رفع الحظر عن الناس وتركهم في مطلق الحرية في أعمالهم خيراً أم شراً هذا الترك والتفويض للإنسان بعيد عن إرادة الله المتمثلة في سلطانه وأوامره ونواهيه.

فالقرآن الكريم يقول: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها). [سورة الشمس، الآيات 7-10].

وقوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً...). [سورة الإنسان، الآية 3].

فالإنسان هو محور الإرادة في تحقيق الخير أو الشر.

ومن الطبيعي أن أدلة المدرسة المفوّضة كانت ضعيفة وربما أضعف من أدلة المدرسة الجبرية. لذلك نلاحظ أن التفويض رأي باطل عقلاً وشرعاً.

أما عقلاً فلا يعدو الأمر بين ما يلي:


أ - إما أن الله سبحانه علم أن المخلوقات بإمكانها أن تدير نفسها مستقلة تماماً وهذه الإرادة الذاتية توصلها إلى الكمال المنشود، وهذا العلم المفترض لحدّ الآن لا نرى تصديقه أو مصاديقه على الأرض فإما أن نقول إن افتراضنا باطل وهو الصحيح وإما أن نصفه سبحانه بالجهل - والعياذ بالله - حيث يفوض الأمر لعباده المحتاجين لقوانينه فبالنتيجة نرى العكس حيث ندرك بالوجدان أن الإنسان بحاجة ماسة إلى أوامر الله ونواهيه دوماً ولا يستطيع أن يستغني عنها أبداً.


ب - وإما أن نقول إنه سبحانه عاجز عن تدبير أمورهم وإدارتهم لذلك فوّض الأمر لهم وهذا العجز لا يليق بمقامه تعالى وليس من صفات الأزلي - كما قلنا سابقاً -.


ج- المسلمون بالإجماع يؤمنون بان الرسالة الإسلامية شاملة للنواهي والأوامر الإلهية والله سبحانه طلب من العباد إطاعة أوامره وتطبيقها والابتعاد عن نواهيه وسيجزي العباد على أعمالهم قال سبحانه:

(وسيجزي الله الشاكرين). [سورة آل عمران: الآية 144].

(لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). [سورة إبراهيم: الآية 7].

فإذن المسألة خالية من التفويض المطلق للعباد.

لذلك حينما يسأل الحسن بن علي الوشا الإمام الرضا (عليه السلام): الله فوض الأمر إلى العباد فقال (عليه السلام): الله أعزّ من ذلك قلت: فأجبرهم على المعاصي. قال: الله أعدل واحكم من ذلك ثم قال: قال الله: (يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملت بالمعاصي بقوتي التي جعلتها فيك).

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) يسأله أحد أصحابه بعد أن سمع لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين قال: وما أمر بين أمرين؟

قال (عليه السلام): (مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت الذي أمرته بالمعصية) والإمام الرضا (عليه السلام) يقول: (... فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً وإن ائتمروا بمعصية الله فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه).

فلو أعطيت لإنسان سلاحاً يدافع عن نفسه وعلّمته الطريقة والهدف المطلوب فلو استعمله الإنسان في قتل إخوانه المؤمنين فهل من العقل أن نقول إن سبب القتل هو الإنسان المعطي للسلاح أو المدرب له! ومثال أقرب لو أعطينا إنساناً مالاً ليستفيد منه في حياته بينما يأخذه ويرميه في البحر ويموت جوعاً هل سبب الموت هو الباذل؟ ومما ينقل في الروايات أن أبا حنيفة في ذات يوم خرج من عند الإمام الصادق (عليه السلام) فاستقبله الإمام الكاظم (عليه السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟ فقال (عليه السلام): (لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عز وجل وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لم يكتسبه. وإما أن تكون من الله عز وجل ومن العبد فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد وهي منه فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه ووجوده).

ومن هنا جاءت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لتبين الحق وتبرزه إلى الساحة بدعم الآيات القرآنية المجيدة ولتزيل الإبهام وترفع الشبهات عن الطريق مستندة إلى الشرع والعقل فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) للرد على المدرستين المذكورتين:

(لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين).

وقال الشيخ المفيد في توضيح حديث الإمام (عليه السلام): (إن الله تعالى مكن الخلق من أعمالهم وأفعالهم ووضع لهم حدوداً فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها فلم يكن بتمكينهم إياها مجبراً لهم عليها ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها).

فالله سبحانه بيّن حدوده الشرعية أوامره ونواهيه وزوّدهم بإرادة خاصة تمكنهم من فعل الشيء أو تركه وجعل أمر الاختيار بيد الإنسان ليختار ريقه بملء إرادته وهذا لا يعني الجبر من ناحية ولا التفويض من ناحية أخرى وسيأتي البحث عن اللطف الإلهي والتوفيق الإلهي وكيف أن إرادة الإنسان مهما بلغت فهي محاطة بإرادة الله سبحانه فبإمكانه عز وجل أن يقطع عمر الإنسان الذي ينوي أن يفعل شيئاً وينهي إرادة الإنسان أيضا فإذن هذه الإرادة الإنسانية هي قوة يمنحها الله الخالق للإنسان كموهبة العقل ونعمة العين فبإمكانه تعالى أن يسلب عقل الإنسان فيصير مجنوناً أو يخلقه وهو أعمى فالمسألة الاختيارية النابعة من إرادة الإنسان إنما هي تحت الإرادة الإلهية المطلقة التي تستعمل صلاحياتها الكبرى متى شاءت.

فالإنسان مختار في حدود معينة ولله سبحانه سلب هذه القدرة من الإنسان، وأتذكر ههنا كلمة للأمام علي (عليه السلام) حيث يقول: (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم)(8).

واستدل مذهب أهل البيت بالآيات القرآنية الكريمة منها: في سورة الإنسان، الآية 3، (إنا هدينا السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) وفي سورة الكهف، آية 29: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وردّوا على تفسير تلك الآيات الكريمة التي اعتبرها المجبرون أدلة قاطعة لهم والحال إنها ليست أدلة لهم بل عليهم. وبالإضافة لما سبق فإن مدرسة أهل البيت اعتمدت كما قلنا على الشرع والعقل.

فأثبت الاختيار ودفعت الجبر والتفويض جانباً ومن أهم الأدلة على ذلك ما يلي:


أ - القضية الوجدانية وخلاصتها أن يسأل الإنسان نفسه هل أنه مجبر على فعل معين من أكل وشرب وسفر وما شابه؟ هل إنه مجبر للحضور في الاحتفال مثلاً أو تناول طعام معين؟ ففي الحقيقة إن الإنسان يمتلك الحرية المطلقة في الاختيار وكما قلت تحت إشراف الإرادة الإلهية قطعاً.


ب - حينما نؤمن بان الله عادل فهل من العدل أن يجبر عباده على المعاصي ويعاقبهم عليها كيف نتصور ذلك فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الناس في القدر على ثلاث أوجه: رجل يزعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ورجل يزعم أن الأمر مفوّض إليه فهذا قد وهب الله في سلطانه).

وعلى هذا فقد أساءت المدرسة الجبرية لله وبظنها أنها تدافع عنه سبحانه فبدلاً من أن تجعله عادلاً جعلته أظلم الظالمين للإنسان حيث يجبر الإنسان على المنكر دون قدرةٍ منه على دفع ذلك ومن يعاقب المسيء المجبور؟

ج - لو كان الأمر كما يذهب المجبرة لبطل التشريع الإلهي من أساسه فما دام الإنسان مكره على أفعاله فمن الخطأ تكليفه بأوامر ونواهٍ وما إرسال الرسل وإنزال الكتب إلا أعمال عبثية لا جدوى من ورائها - والعياذ بالله -.


د - لو ماشينا الجبرية لخرجنا ببطلان الحساب والعقاب في النعيم أو العذاب وذلك لأن الشاكر والكافر بدرجة واحدة حيث أنهما مجبران على الطاعة أو الجحود فإما كلاهما إلى الجنة وإما كلاهما إلى النار لأنها لا دور لأحدهما في أعماله وتصرفاته ما دامت القدرة الذاتية مسلوبة في اختيار الأعمال.


هـ - ما دام الإنسان مسيّر وإن أفعاله التي يؤديها هي أفعال غيره وإرادة غيره بقرارات غيره وهو الله سبحانه - حسب الفرض - فلا داعي إذن لمعاقبته في الشريعة الإسلامية في الدنيا والآخرة فالزاني والسارق والقاتل كلهم أدّوا هذه الجرائم كممثلين على المسرح مجبرين أداء هذه الأدوار المحددة لهم. فمن المعيب بل ومن الظلم أن نسن لهم تشريع العقوبة في قطع يد السارق أو جلد الزاني وغيرهما، التي نراها في القرآن الكريم.


و - أما أدلة المجبرة (الماضية) من أن إرادة الكافر لو غلبت لم نستطع أن نقول بغلبتها وإنما نعطي الغلبة لله وإن كانت النتيجة قبيحة وهذا الكلام ساذج حيث أنهم أرادوا الدفاع عن قدرة الله وضعوه في قفص الاتهام بعنوان الظالم المطلق - نستغفره تعالى - أو أن ما في علم الله لابد أن يتحقق في الخارج شراً أو خيراً فالكافر لابد أن يظهر في الميدان عملياً كحقيقةٍ خارجية مصدقة لعلم الله ونفي هذا التصديق العملي جهل من قبل الله وهكذا.. والحق إن الأمر واضح والردّ على ذلك واضح أيضا حيث أن العلم بالشيء لا ينفي ما عداه والعلم بالشيء لا يعني أنه هو الفاعل فالعالم بأوقات الخسوف والكسوف والتقلبات الجوية ودرجات الحرارة هل نعتبره أنه هو فاعلها؟ وليس من عاقل يقول هذا.

وأما الآيات الكريمة التي يظهر منها ما يستفيده المجبرة. ففي الحقيقة هنالك آيات كريمة اكثر ظهوراً منها تفيد العكس مثلاً يقول:

(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها). [سورة شمس، الآيات 7-10].

فيجعل الله للإنسان وحده حق تقرير مصيره (قد أفلح من زكّاها...) سئل أحد الأصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال الإمام: (... قال الله عز وجل يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك) فيضع الأمر بيد الإنسان نفسه، وآيات كريمة مضت منها:

(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان، الآية 3].

وغيرها من الآيات والروايات. وأما الآيات التي يشم منها ظاهراً تأييد رأي المجبرة كما في سورة النساء: آية 78 (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله).

فالحسنة في اللغة العربية لها معانٍ عديدة منها الرحمة والخير والنعمة كما للسيئة معان عديدة منها المصيبة والحدث المؤلم ونقص بالأموال والأنفس. وهكذا ورد في المصحف المبارك قوله تعالى:

(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها). [سورة آل عمران، الآية 120].

فالحسنة هنا بمعنى الرحمة والبركة، أما السيئة فهي تعني المصيبة والكارثة، وفي قوله تعالى في سورة الأعراف، الآية 131: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه...) فالحسنة بمعنى النعمة والبركة والسيئة بمعنى المصيبة والعذاب. فإذن ليست الحسنة بمعنى الطاعة والالتزام دائماً وكذلك السيئة ليست بمعنى الكفر والعصيان دوماً بل لهما معانٍ أخرى - كما مر - وفي سورة إبراهيم، الآيات 2-4: (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).

فذهبت مدرسة المجبرة إلى أن الله تعالى يضل العباد بفعله ويهديهم بفعله كذلك ويستنتجون من هذا التفسير بأن الإنسان مجبر على أفعاله حسنة وقبيحة فإنها من الله وبأمره وكما مضى في الآية السابقة إن اللغة العربية واسعة المفاهيم دقيقة الأوصاف فالهدى والضلال كلمتان متقابلتان وردتا في القرآن الكريم كذلك بمعان عديدة منها: تأتي كلمة الهدى بمعنى الإرشاد كقوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) أي ارشدنا وتأتي كلمة الضلال بمعنى التيه والضياع كقوله تعالى: (...غير المغضوب عليهم ولا الضالين) في سورة الحمد أي بمعنى التائهين، وتأتي كلمة الهدى بمعنى الزيادة في البركات والألطاف كقوله تعالى:

(والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم). [سورة محمد، الآية 17].

بينما تأتي كلمة الضلال بمعنى الموت كقوله تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد). [سورة السجدة، الآية 10].

أي لو متنا سنبعث من جديد بعد الموت، وتأتي كلمة الهدى بمعنى الثواب كقوله تعالى:

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار). [سورة يونس، الآية 9].

أي يثيبهم ويجزيهم الجنة.

وتأتي كلمة الضلالة بمعنى العذاب كقوله تعالى في سورة القمر، الآية 47: (إن المجرمين في ضلالٍ وسعر) أي في عذاب وسعير، والمعنى المعروف لكلمة الضلال هو معصية الله والخروج عن الطريق المستقيم على عكس الهدى فتعني إطاعة الله والاستقامة على الطريق السوي.

وبعد هذه المقدمة اللغوية نعود للآيات الكريمة الثلاث من سورة إبراهيم، فالمجبرة قالت إنها تدل على أن فعل الضلال والهدى من قبل الله تعالى فالإنسان مضطر في أعماله وتصرفاته ومجبر عليها خيراً أو شراً بدليل الآيات هذه وغيرها على نفس الطريقة الاستنتاجية والحق إن هذه الآيات لا تدل على الجبر في أفعال العباد حيث سياقها يشير إلى أن إرادة الإنسان هي التي تقر مسيرته في الحياة فالناس الذين يحبون الحياة الدنيا ويفضلونها على الآخرة بل والذين يقفون أمام الحق وينهجون نهجاً غير مستقيم هؤلاء قد تركوا الرسالة التي جاءتهم بلسانهم ووضحت لهم سبل الخير والصلاح وحذرتهم من الشر والفساد.

فمن خلال المعنى العام للآيات الثلاث نستدل على الاختيار لدى الإنسان في تحديد سلوكه وتصرفاته ونرى أن معنى الضلال في الآية الرابعة هو العذاب ومعنى الهدى هو الثواب وقد مرّ بالمقدمة إن من معاني الهدى والضلال ذلك فيصير المعنى فيعذب الله من كفر ويثيب من آمن واطاع ولذا نرى نهاية الآية الرابعة (وهو العزيز الحكيم) فمن الحكمة الإلهية أن يبين الطريق المستقيم والطريق المنحرف ويترك الأمر للإنسان كي يختار بإرادته. لتثبت حكمته تعالى في الأمر بطاعته والنهي عن معصيته ومن ثم يثيب المطيع ويهلك المعاصي أما لو كان الله يكرههم على الأفعال والمعاصي فليس من الحكمة إذن إرسال الرسل وإصدار الأوامر والنواهي لمن يكون مسلوب الإرادة.. وهكذا الآيات الأخرى التي يستدل بها الجبريون على دعواهم في سلب الاختيار والإرادة من الإنسان فالإنسان يفعل الخير أو الشر لا بإرادته الخاصة وإنما بفعل الله وقدرته فالإنسان آلة تنفيذية تفعل دون قرارها وإنما قرارها هو قرار الله خيراً أو شراً - والعياذ بالله - واحتجاجهم في ذلك واهٍ جداً وعلى غرار ما تقدم تنهار كل استدلالاتهم من القرآن الكريم والسنة الشريفة بل تنقلب عليهم خاصة حينما نقرأ الآيات الظاهرة على اختيار الإنسان لسلوكه وأعماله والنافية للجبر والاضطرار فمن الآيات هذه: قوله سبحانه وتعالى:

(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد). [سورة فصلت، الآية 46].

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). [سورة البقرة، الآية 79].

(كل نفس بما كسبت رهينة) [سورة المدثر، الآية 38].

(فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً). [سورة الكهف، الآية 29].

(سارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم...). [سورة آل عمران، الآية 133].

(ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين). [سورة المدثر، الآية 42-43].

وأمثال هذه الآيات المباركة فإنها تدل على حرية الإنسان في اختيار أعماله وسلوكه وهو الذي يقرر مصيره يوم الحساب.

وبالنتيجة نفهم أن مدرسة أهل البيت هي التي أعطت المعنى الحقيقي المتزن بين الجبر والاختيار في نظرية الوسط الإسلامي بين الإفراط والتفريط فللإنسان إرادته وحريته ولكن الإرادة الكبرى هي بيد الله عز وجل وكمثالٍ توضيحي للتقريب - القوة الكهربائية - فنحن أحرار في تصرفنا بالقوة الكهربائية داخل البيت فنستخدمها للسخان تارة وللبراد والثلاجة تارة أخرى ونشعل الضياء الكبير أو الصغير بحرية تامة ولكن أمر الطاقة الكهربائية الرئيس بيد دائرة الكهرباء فمتى ما شاءت تطفئ الطاقة الكهربائية أو تشعلها فإرادتنا داخل البيت محكومة بإرادة الدائرة الرئيسية الموزعة للطاقة الكهربائية وبمعنى آخر إن حريتنا مطلقة نسبياً في داخل البيت وهكذا نفهم الأمر بين الجبر والتفويض.

فالله سبحانه بيده القدرة الكبرى ومنح للإنسان حرية ضمن دائرة معينة فإن أراد الله تعطيل حركة الإنسان في سلب حريته لفعل ذلك متى شاء.


************************************************** *****************


8 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة لمحمد دشتي وكاظم محمّدي قصار الحكم، رقم 250، ص115، طبع قم، 1406هـ.

اكيد لي عوده وتتميمه فنتظروني

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-07-2006, 04:43 PM   رقم المشاركة : 10
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

القضاء والقدر


القضاء هو الإمضاء الإلهي على أمرٍ حتمي الوقوع الذي لا مرد له، والقدر هو الحد الطبيعي من القانون الإلهي في الوجود فالله قدّر للإنسان أن يكون له عقل فلو توفرت الظروف الذاتية والموضوعية فيصير أمراً واقعياً وحتمياً أي قضاءً. قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (القدر هو تقدير الشيء من طوله وعرضه والقضاء هو الإمضاء الذي لا مرد له) وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (القدر هندسة والقضاء إبرام).

وللقضاء والقدر معانٍ أخرى وردت في القرآن الكريم منها الإخبار كقوله تعالى في سورة الإسراء، الآية 4، (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) أي إخبارهم بذلك ومنها الإرادة كقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 117، (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد أمراً ومنها الحكم والفصل كقوله تعالى في سورة طه، الآية 72، (فاقض ما أنت قاض) ومنها الأمر كقوله تعالى في سورة الإسراء، الآية 23 (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) أي أمر بعبادته ومنها الموت كما في سورة القصص، الآية 15 (فوكزه موسى فقضى عليه).

ومن معاني القدر التحديد بالكمية كقوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم) ومنها الخلق كقوله تعالى: (وقدّر فيها أقواتها) أي خلقنا ومنها التضييق كما في سورة الفجر، الآية 16. (وإما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن).

ومنها القضاء الحتمي كما في سورة الأحزاب، الآية 38، (كان أمر الله قدراً مقدوراً) أي حتماً مقضيّا أما المعنى الذي هو محل نزاع الفلاسفة والمتكلمين هو الذي يوصلنا إلى سلب إرادة الإنسان وإجباره على أعمال معينة خيّرة أو شريرة بدعوى أن القضاء والقدر ملزمان ولا مفر منهما أو ما يقابل هذا المعنى وهذا المذهب.

وقد اتفق المسلمون على أن أعمال الناس تجري بقضاء وقدر إلهيّين فقد ورد في الحديث الشريف (كل شيء بقضاء وقدر) ولكن كالمعتاد اختلف المسلمون في تحديد مفهومي القضاء والقدر وقبل أن نوضح الاختلاف نحاول أن نسلط الضوء على جزء من المسألة في البداية فنقول: إن أفعال العباد اللاإرادية هي خارجة عن موضوع البحث وهي التي نسميها بالضرورية كالأعمال الداخلية للإنسان كعمل المعدة وجهاز التنفس ونبض القلب والدورة الدموية. فإذن الحديث يقتصر ويدور حول الأعمال الإرادية للإنسان والتي نسميها بالأعمال الاختيارية الخارجية التي تخضع لإرادة الإنسان فيسيّرها كيف يشاء أو يُجبر على التصرف بها كما يذهب البعض لذلك، كالذهاب والإياب والاعتقاد والعبادة والأكل والشرب والنوم وسائر الأفعال. وهنا أكّدت مدرسة المجبرة بأن القضاء والقدر الإلهيين هما مفروضان على البشر فالله سبحانه خلق أفعال الناس بقضائه وقدره وما يؤدي الناس من أعمال فهي بقضاء الله وقدره، فالله قدّر الكفر والعصيان على الكافرين والعاصين وقضى بالكفر والعصيان عليهم وهو الذي قدّر وقضى بالطاعة والإيمان على المطيعين والمؤمنين من دون أن تكون للناس إرادة وقابلية تردّ قضاء الله وقدره فالناس مسلوبو الإرادة والاختيار أمام القضاء والقدر الإلهيين وبمعنى آخر أن الله خلق أفعال العباد الحسنة والقبيحة وأجبرهم على الاستسلام لها وتطبيقها فالمجبرة أرادوا أن ينفوا الشريك من الله في أفعاله ولكنهم سقطوا في وحلٍ عميق حيث نسبوا إليه الظلم والفساد.

وأما المفوّضة فإنهم ذهبوا إلى أن الله خلق العباد وترك لهم حريتهم المطلقة والكاملة في كل التصرفات والسلوك لذلك أرادوا أن ينزهوا الله من الظلم والجور والفساد فوقعوا في وحل عميق أيضا حيث أنهم عزلوا الله سبحانه عن ملكه وجعلوا له شريكاً في الأفعال فقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله النار)(9).

وهذه خلاصة مدرسة أهل البيت - في الجبر والتفويض - فالله سبحانه منزّه من أن يجبر عباده على عمل معين ومن ثم يعاقبهم عليه لأن ذلك خلاف عدله وحكمته وخلاف ما نشعره في وجداننا الشخصي.

ونورد هنا رواية أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سأله أحد أصحابه عن هذه المسألة كما يروي لنا الكليني في (الكافي): (قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ اقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين: أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له: مه يا شيخ فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال الشيخ وكيف، لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا فقال له: وتظن أنه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟ وإنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله عز وجل وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة أخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوباً ولم يُطع مُكرهاً ولم يملك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذن كفروا من النار).

فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته***يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً***جزاك ربك بالإحسان إحساناً

وفي رواية الصدوق في (العيون) بإسناده عن يزيد بن عمير قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت له يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه، فقال الرضا (عليه السلام): من زعم أن الله تعالى يفعل أفعالنا ثم يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حجته (عليه السلام) فقد قال بالتفويض، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك، فقلت له يا ابن رسول الله فما أمر بين أمرين، فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه فقلت له فهل لله عز وجل مشيئة وإرادة في ذلك، فقال: أمّا الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها، والرضا والمعاونة عليها، وإرادة ومشيئته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها والخذلان عليها، فقلت فلله عز وجل فيها القضاء. قال: نعم، ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله تعالى فيه القضاء، قلت فما معنى هذا القضاء، قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة)(10).

فمن هنا نفهم بأن الجزاء الإلهي هو حق طبيعي لله تعالى وذلك انطلاقاً من عدالته فمن العدل أن يعوّض الله الإنسان المؤمن عن صبره وجهاده وعبادته بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. يقول تعالى:

(إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب). [سورة الزمر، الآية 10].

ومن العدل أن يعاقب الله الإنسان المنحرف لعصيانه وانحرافه وظلمه أيضا: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). [سورة الزلزلة، الآيتان 7-8].

وهذا الثواب أو العقاب إما أن يتجزأ لمصلحة معينة في الدنيا والآخرة وإما أن يؤجل تماماً للآخرة وبهذا التوجيه ندرك وبعمق العدل الإلهي فحرمان في الدنيا وعطاء في الآخرة وصبر في الدنيا ونعيم دائم في الآخرة وبالمقابل الاعتداء على الحقوق في الدنيا يعني الجحيم في الآخرة فإذن الحياة الآخرة تكمل الحياة الدنيا علماً بان الدنيا عمل بلا حساب وفي الآخرة حساب بلا عمل. وبمعنى آخر أن الذي ينظر إلى الدنيا فحسب باعتبارها كل الحياة ربما يصل إلى معرفة التفاوت والاختلاف بين العباد في المال والجمال والكمال وحينما يجعل الدنيا إحدى الحلقتين الكبيرتين في الحياة العامة والحلقة الثانية هي الآخرة فتكتمل صورة الحياة العامة وتزول هذه المعرفة السطحية التي يحصل عليها الإنسان من الوهلة الأولى حينما ينظر إلى الحياة الدنيوية. وأتخطر هنا حديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حينما دخل على ابنته الزهراء (عليها السلام) وهي تطحن بيديها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها (صلى الله عليه وآله): (يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة)(11) وطبيعي - كما قلنا - يمكن أن تكون مصلحة معينة في البين فينزل الله عقابه على عباده في الدنيا كتأديب المجتمعات الغابرة أو المعاصرة فيأتي العقاب في الدنيا وبالمقابل في الحالة الإيجابية قد يستجاب الدعاء كإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل أو إلحاق العقوبة المباشرة لأقوام الأنبياء الذين انحرفوا وأصرّوا على الانحراف كقوم نوح وعاد وثمود فقد جاء دعاء النبي نوح (عليه السلام) في سورة نوح الآيتان 24-25 في قوله تعالى: (وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً، مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) فأصبحت من القوانين والسنن الإلهية كما قال سبحانه (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً). [سورة الإسراء، الآية 77].

وقال في سورة الأحزاب، الآية 62، (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) فدلت هذه الآيات على ربط الأسباب بالمسببات ونتائج الأعمال بمقدماتها سواء كانت النتائج في الدنيا أو في الآخرة حسب الحكمة الإلهية. لذلك قال الملا صدر في شرحه لأصول الكافي (القضاء والقدر إنما يوجبان ما يوجبان بتوسط أسبابٍ وعللٍ مترتبةٍ ومنتظمةٍ بعضها مؤثرات وأخرى متأثرات).

وهنا لابد من التنويه لمسألة حياتية وهي: إن الإيمان بالقضاء والقدر بالمعنى الجبري يدفع بالإنسان لمنهجية اللا مبالات والكسل لأنه ينتظر جاهزاً ما في قضاء الله وقدره. والصحيح أن الإيمان بقضاء الله وقدره هو الإيمان بسنن الله وشريعته حيث يدفعنا الله إلى التنافس الإيجابي في عمل الخير والإحسان ويدفعنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والجهاد في سبيل الله كما قال في محكم كتابه:

(انفروا خفافاً وثقالاً وجهادوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله). [سورة التوبة، الآية 41].

وقال سبحانه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى غيروا ما بأنفسهم...). [سورة الرعد، الآية 11].

وهذا الذي يجعلنا نقرر ما قلناه بأن الإنسان في أفعاله وسلوكه مختار وبمعنى آخر إنه مخيّر لا مسيّر وإرادة الإنسان الاختيارية هذه هي تحت سلطان الله وقدرته الكبرى فالإنسان مختار في تصرفاته بتلك القدرة والقابلية الإلهية التي منحها الله إياه. فالله منح عباده القابلية على الشر كما منحهم القابلية على الخير فقد قال عز وجل في سورة الإنسان، الآية 30: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) فحينما يعمل العبد معصية فقد أساء اختياره مستعيناً بقدرة الله سبحانه حيث منحه القدرة والقابية على ذلك وفاعل الخير استفاد من هذه القدرة وأحسن اختياره فقال سبحانه في سورة هود، الآية 7: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فالإنسان بإرادته يختار ويتجسد لطف الله عز وجل في توضيح الطريقين وعواقبهما ويمكن أن يثار ههنا سؤال حول تفسير الحديث المشهور للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه)(12) فهل يمكن تغيّر الشقاوة أو السعادة ما دامت مكتوبة على جبين الإنسان قبل نزوله إلى دار الدنيا والحق إن الله يعلم قبل أن يخرج هذا الإنسان من بطن أمه أنه سوف يرتكب الجرائم أو يعمل الحسنات كما قال الإمام الكاظم (عليه السلام) حينما سئل عن معنى الحديث (الشقي من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل عمل الأشقياء والسعيد من علم الله - وهو في بطن أمه - إنه سيعمل عمل السعداء) فبمجرّد علم الله تعالى في تمييز عباده لا يعني ذلك جبراً أو قسراً عليهم، هذا ومن الممكن أن نفسر الحديث على أن السعادة تحصل من تأثير الأبوين وحالتهما النفسية والصحية مثلاً - مما يعكس على الجنين الارتياح والسعادة. ومن المغالطة بمكان أن نرمي بأسباب الأعمال الصالحة أو المعاصي على الله - سبحانه - فقد ورد في رواية (بحار الأنوار، ج5، ص47) قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (يكون في آخر الزمان قوم يعملون من المعاصي ويقولون إن الله قد قدّرها عليهم، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله).

والحق أن القضاء والقدر قانونان إلهيّان نرى أثرهما الواضح في الحياة ففي الرواية عن الإمام علي (عليه السلام) أنه كان جالساً في ظل جدار وفجأة عرف أن الجدار مشرف على الانهدام فابتعد عنه حالاً وحينئذٍ اعترض أحد الحضور قائلاً: أمن قضاء الله تفرّ يا علي؟ فأجابه (عليه السلام): أفر من قضاء الله إلى قدره(13).

إذن هما قانونان من القوانين الإلهية فالفرار من قانون الهي يمكن أن يسبب الموت حين سقوط الحائط فعليه أن يبتعد الإنسان عن الحائط المائل ويضمن حياته لما بقي من العمر المقدّر له فلو كانت ساعة الموت حتميّة (بالقضاء) فيحل عليه الموت حتى دون سبب ظاهر كقانون الهي أيضا فقد قال عز وجل: (قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفهسم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم). [سورة آل عمران، الآية 154].

وهذا ردّ من الله سبحانه على الكافرين لما قالوا: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يحيي ويميت). [سورة آل عمران، الآية 156].

ومن هنا نفهم الأحاديث الشريفة والروايات الواردة مثلاً: الصدقات تدفع البلاء وصدقة السر تطفئ غضب الله.. فالأجل المعلق والبلاء الطارئ يدفع بالصدقة كقانون الهي والأجل الحتمي لا يدفعه شيء كقانون الهي أيضا لقوله - تبارك وتعالى:

(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). [سورة النحل، الآية 61].

فهذا هو القضاء الحتمي من الله سبحانه لا يعارضه شيء أبداً.

************************************************** *****************


9 - مغنيه، فلسفة التوحيد والنبوة، ص63.

10 - عقائد الزنجاني، ص33.

11 - ميزان الحكمة، ج3، ص327.

12 - ميزان الحكمة، ج5، ص129.

13 - التوحيد للصدوق، الطبعة الحجرية، ص337، عن المطهري، ص121.

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-07-2006, 04:45 PM   رقم المشاركة : 11
المتعب من جور الزمان
طرفاوي بدأ نشاطه
 
الصورة الرمزية المتعب من جور الزمان
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

حكمة أفعال الله


سؤال يواجه الجميع: لماذا الاختلاف والتفضيل في الحصص الموزعة من الفيض الإلهي؟ فلما كانت الأرزاق الإلهية عادلة التوزيع بين البشر لماذا نشاهد الاختلاف في الحياة؟ فإن كان الاختلاف نتيجة لأرضية الاستقبال لهذا الفيض كمّاً وكيفاً لماذا تختلف هذه الأرضية من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر؟ هنا يبرز السؤال بصورة اكثر شدةً لماذا هذا الاختلاف في أرضية الاستقبال؟ ألم يخلقنا الله جميعاً بقانون عادل متزن إذن لماذا الاختلاف والتمايز بين الناس؟ فنرى أحد الناس ذكياً جميلاً ذا مالٍ وجاهٍ وعناية يولد في بلدٍ غني خالٍ من المشاكل والأزمات النفسية ويضع بظروف جيدة فيدرس ويتثقف ويشقّ طريقه إلى مواقع علمية واجتماعية وربما سياسية مرموقة فينعم في حياته، بينما نرى شخصاً آخر بصفات عكسية أي إنه غبي أبله قبيح المنظر فقير مالياً وليس له جاه ويولد في بلد فقير تعيس وكلّه مشاكل وأزمات نفسية وسياسية فلا يدرس ولا يتثقف بل يشق طريقه نحو أزمات حادّة تنتظره، فإذا بلغ سن الرشد لا يستطيع الزواج لإفلاسه وضعته فتزداد حدة مشاكله فتصبح روحه عدائية انتقامية عنيدة - غالباً -.

والآن لماذا هذا الفرق؟ ولماذا هذه الاختلافات؟ وكما يصدق ذلك على الفرد يصدق على المجتمع بصفة عامة بل على الكائنات الحية الأخرى فلماذا خلق الإنسان وخلق الحيوان؟ ولماذا خلق الحيوان حيواناً بريّاً؟ والآخر بحريّاً وهكذا. ومرةً أخرى تبرز المساءلة الوجدانية لماذا الاختلاف في الأعمار؟ بل لماذا تنتهي حياتنا وتفنى وتنعدم ونحرم أخيراً من نعمة الدنيا؟ وكذلك تبرز المساءلة الوجدانية لماذا النقص في الخلقة وعدم الكمال فلماذا الجهل والفقر؟ ولماذا الآفات والمصائب والحيوانات السامة والضارة؟ لماذا الجراثيم القاتلة فلو اعتبرنا من الحكمة أن توجد الكريات البيضاء في دم الإنسان لتطوق الجراثيم المهاجمة لجسم الإنسان وتطردها نتساءل لماذا الجراثيم ابتداءً؟ إن هذه الحشرات والآفات التي لا نستطيع حصرها تهدد الإنسان بل الحياة بالأجمع فالأفاعي السامة تقتل الإنسان والنيازك الحارقة بإمكانها أن تحرق مدينة كاملة والفيضانات المدمرة باستطاعتها تدمير البشرية.. بعد هذه التساؤلات التي تعتبر من البحوث الحساسة في مسألة العدل الإلهي والتي تنتاب ذهنية شباب المسلمين اكثر من غيرها لأنها ملموسة عملاً وبإمكان الوسوسة الشيطانية أن تمد مخالبها القذرة إلى الفطرة الإنسانية السليمة لتخدشها عبر هذه الطرق التي تظهر في البداية بأنها صاحبة الحق ولكن بعد ما يتضح موقف الإسلام الحقيقي تضمحل هذه الشبهات وتذوب أمام أشعة الحق الحارقة لجراثيم الباطل. وأرى نفسي مضطراً لتوضيح المسألة اكثر فأتناول هذا الموضوع بنوع من التفصيل.. وعلى ضوء مجمل مطالعاتي في هذا الشأن أظن إن هذه الإشكالات هي التي دفعت الإنسان لاتخاذ نهجاً عبادياً والتزامياً معيناً في الحياة ففي حقبة زمنية غابرة تبنى الإنسان إلهين في الكون إلهاً للخير وإلهاً للشر فعبدوا أصنام الخير: الماء والشمس والأرض... وعبدوا أصنام الشر: الطاعون والزلزال فنشأت الثنائية (الازدواجية) كما في عبادة المجوس المعروفة أو عبادة الجاهلية التي كانت تتقرب إلى الله برموز الخير وتتعوذ برموز الشر، فلو تجردنا عن هذا التحليل وجئنا إلى القرآن الكريم ونقرأ الآية الكريمة:

(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور). [سورة الأنعام، الآية 1].

تبرز أمامنا هذه المساءلة الوجدانية الملحّة فالظلام المقترن بالخوف والسكون والسواد وتوقف الحياة الاجتماعية بينما النور المقترن بالحركة والانتعاش والازدهار وكلاهما من جعل الله وإبداعه.. المهم هذا التساؤل يأخذ طريقه الطبيعي بحثاً عن الإجابة فتارةً نذهب إلى أن الموجودات كلها خير وما نحسبه شراً هو أمر طارئ على الأصل أي الخير، ويحكم لهذا الشر بالمعادلة النسبية فيوجد في باطن الشر هدف صالح وخير محسوب من زاوية معينة ربما نحن لا ندركه لقصورنا أحياناً وتقصيرنا أحياناً أخرى، هذه إجابة إيجابية وبالضبط أمامها إجابة سلبية تحمل روح الرد على التفسير الأول وعموماً أمام هذه التساؤلات توجد طريقتان للإجابة.

الطريقة الأولى: هي الطريقة التسليمية المطلقة، فلا ظلم في الخلق والوجود ولا اختلاف ولا تفرقة في الكون بل العدل والاستقامة والتوزيع العادل للفرص الحياتية - كما قلنا في الصفحات السابقة - ونسأل لماذا يظلم الله الناس؟ ألأنه محتاج أو فقير أو انه يضمر البغض والعداء لأحد.. كل ذلك ليس من صفات الأزلي الحكيم وكل ما في الأمر أن بعض الأسرار ما استطعنا اكتشافها لقصور أو تقصير. وهذه الطريقة في الإجابة سهلة وبسيطة ومريحة للنفس من جهة وأنها سريعة النتائج من جهة أخرى.

أما الطريقة الثانية: فهي الطريقة التوضيحية (طويلة النفس) هدفها العثور على أسرار هذه الآفات والأزمات والاختلافات وتوجيهها التوجيه الإسلامي القويم على ضوء المعرفة المتواجدة لديها فنسأل مثلاً هل من الحكمة والمصلحة أن تخلق هذه الآفات والزلازل المفجعة والمروعة؟ وعليه كان لابد من معرفة وجودات الكون ضمن الأنظمة الذاتية أو الاعتبارية بأنها خلقت بهذه الصيغة لا غيرها مع وجود الترابط المتين فيما بينها أو أنها وجدت ثم احتلت هذه المواقع فيما بعد، وهنا يضرب الشهيد مطهري مثلاً بالأرقام ويقول: (فمثلاً العدد 5 يستطيع أن يكون بين العدد 4 والعدد 6 ولا يستطيع أن يحتل المرتبة بين العدد 6 والعدد 8 وهل يحتل العدد 7 المنزلة بين العدد 4 والعدد 6 دون خرق؟ وتعالوا الآن ننظر في نظام العلل والمعلولات الأسباب والمسببات المقدمات والنتائج لنرى ما هي حقيقتها؟ هي خلقت أولاً ثم أعطيت درجتها ومنزلتها بعد ذلك؟ أم أن وجودها مساوٍ للرتبة التي استقرت فيها)(14).

وقد قال سبحانه: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). [سورة القمر، الآية 50].

فالإرادة المباشرة من الله وإرادة التنظيم الحالي كذلك منه في تعيين الرتبة وتحديد المهمة والصلاحية فالإرادة واحدة في الخلق والإدارة فإذن النظام الكوني ذاتي وليس اعتبارياً وإرادة وجود الكون هي عين إرادة نظام الكون وإرادة نظامه هي عين إرادة وجود الكون. وفي الحقيقة لا يوجد تفضيل في الخلق والتوزيع بالنسبة للقدرة على الانتفاع أي الأرزاق العامة وإنما هنالك فرق واضح بين الأمرين فالتفضيل هو ترجيح كفة طرف على طرف بالرغم من تساويهما مثال ذلك البشر أمام القانون الإسلامي فلا تفضيل ولا ترجيح حيث قال (صلى الله عليه وآله): (الناس سواسية كأسنان المشط). أما الاختلاف فهو توزيع المهام حسب القدرة والقابلية فهو تفضيل وترجيح كفة طرف على طرف آخر لعدم تساويهما كما في الفقه الإسلامي أن دية المرأة نصف دية الرجل وللمجنون أحكام ولغير البالغ أحكام وللعبد المملوك أحكام وفي الإرث (للذكر مثل حظ الأنثيين) وهكذا إذن المسألة ليست تفضيل دون أسباب وإنما هنالك اختلاف ولابد من مراعاته كي تتحقق العدالة، والاختلاف مسألة طبيعية حينذاك بل هي عين العدالة بينما عدم مراعاة الاختلاف أي المساواة هنا هي عين الظلم قال تعالى:

(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). [سورة الزمر، الآية 9].

ومثال جميل يستشهد به الشهيد مطهري في كتابه العدل الإلهي فيقول: لو أخذنا إناءين يسع كل منهما عشرة ليترات ووضعنا أحدهما تحت حنفية الماء وسكبنا فيه عشرة ليترات من الماء ووضعنا الآخر تحتها وسكبنا فيه خمس ليترات منه فهذا ترجيح لأن منشأ الاختلاف هنا ليس من ناحية الإناء وإنما من المالئ للإناء أما إذا كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة ليترات والآخر يسع خمسة ليترات وغمسنا كلاً منهما في البحر فإن الاختلاف بينهما سيستمر لأن اختلافها ناشئ من ناحية استعداد كل منهما وسعته وليس من ناحية البحر أو قوة اندفاع الماء(15) وعلى هذا تزول الشبهة ولكنها تظهر بشكلٍ أقوى إذا عرفنا أن صانع الإناءين ولسبب ما جعل أحدهما صغيراً والآخر كبيراً فلا يمكن تساويهما لاختلاف قابليتهما فالإشكال على الأصل.

وهكذا بالنسبة إلى خلق الإنسان حيث أن الله سبحانه خلق الحر والعبد فعليه يحصل الحر على امتيازات ما لا يحصل عليها العبد، لماذا؟ ولماذا خلق الذكر ذكراً والأنثى أنثى ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين. والجواب على ذلك يتلخص بما يلي:

يقول الله في محكم كتابه: (إنا كل شيء خلقناه بقدر). [سورة القمر، الآية 49].

فالقانون الإلهي في خلق الكون له امتيازاته وترتيباته وقوانينه الخاصة وإن هذا الكون قد خلق ضمن مقاييس معينة وإدارة هذا الكون محكومة بأنظمة ثابتة ذاتياً لا تقبل التغيير كما في سورة فاطر، الآية 43: (فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً).

وقال سبحانه: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم). [سورة الرعد، الآية 11].

فالقانون الإلهي ليس قانوناً اعتبارياً طارئاً سرعان ما يتغيّر ويزول بل إنه قانون ثابت فنظام العلة والمعلول والأسباب والمسببات ومراتب الخلق - كما قلنا سابقاً - كل ذلك ضمن تخطيط وإدارة قانونية ثابتة فلا يمكن أن نجمع ذرتين من الهيدروجين وذرة من الاوكسجين وننتظر الناتج حامض الكبريتيك فكل شيء علة لمعلول معين ومعلول لعلة معينة وضمن نظام الخلق والإيجاد تترتب الوجودات ذاتياً لا اعتباطياً طارئاً. وضمن هذا النظام الواسع لابد أن توجد عدة اختلافات لتكتمل صورة الكون فالكون بحاجة إلى جزء غير مرئي والى جزء مرئي ظاهر للعيان والكون بهذه الصورة القانونية المبدعة بحاجة إلى جزء من المادة نسميه تراباً صالحاً للزراعة والحفر والمشي عليه وبحاجة إلى قرص منير يحلق في السماء ويشع علينا نوراً في الليل ولا نستطيع أن نعيش فوق ترابه مع أن الإنسان استطاع أن ينزل على سطح القمر ولكن بالنتيجة يبقى هذا الكوكب يخدم الإنسان من بعيد. والكون بحاجة أيضا إلى ظلمات متراكمة في جوف المحيطات والبحار فكما أن للكون قمماً جبلية شاهقة فللكون أيضا وديان سحيقة لغرض التوازن وسريان القانون الإلهي.

كل ذلك ليس من باب التفضيل والامتياز وإنما من باب التوزيع للأدوار التي لابد منها لغرض التكاملية فهو من باب الاختلاف الذي هو عين العدالة والحكمة والتدبير.

وأما موضوع الآفات والشرور في الطبيعة كالزلازل والفيضانات المدمرة والحيوانات السامة والضارة وهكذا النقص في العطاء والخلقة فهذا رجل بصير وهذا رجل أعمى وهذا جميل وهذا قبيح وهذا الحيوان نجس وهذا طاهر فمما لا شك فيه إنه موضوع من أشد المواضيع الغنية بالأمثلة والوقائع وبالفعل نرى بعض المسلمين يثيرهم هذا الموضوع وبالخصوص لو كان المتطرق له يمتلك لباقة بيانية وقدرة على الاستيلاء على مشاعر القارئ أو السامع فلذلك كان الأجدر بنا أن نبحث مبحث العدالة بالتفصيل ونجعله من البحوث العامة والمتداولة بين الأيدي وننزّله إلى الثقافة العامة لتتشكل خلفية إسلامية ناضجة للمسلمين ليردعوا بها أصحاب هذه الأبواق الجاهلية.

والحق إن الظلم والشر والقبح أمور نسبية أي تتحدد سلبياتها بالنسبة لشيء معين دون آخر، مثلاً الحيوانات السامة هي ليست ضارة لنفسها بل للإنسان فهي بالنسبة للإنسان ظلم وشر لأنها تقتله أما بالنسبة لنفسها فلا ظلم ولا شر وبالنسبة لغيرها كذلك بل قد تكون خيراً لكائن حيواني آخر ويمكن أن تؤثر على الطبيعة المحيطة تأثيراً إيجابياً.

ولنأخذ مثالاً من الطبيعة: ثاني أوكسيد الكربون غاز سام وقاتل بالنسبة للإنسان ولكنه بالنسبة للنباتات ضروري لحياتها فتأخذه من مركبات الهواء لتلفظ الأوكسجين الذي يعتبر الجزء الضروري من الهواء لحياة الإنسان فثاني أوكسيد الكربون ضار بالنسبة للإنسان ونافع للنباتات ومع وجود هذه النسبة الواضحة نلاحظ في قانون الخلقة الكونية لابد من الغازين في تركيب الهواء - في مثالنا - أي إن هذه الوجودات وأمثالها من لوازم الخلقة الكونية فلا يمكن الاستغناء عنهما كالعارض على الواقع أو ملازمة الظلم لصاحبه. ومع ذلك يمكن افتراض فوائد جمة للسموم المارة الذكر لكننا ما توصلنا لمعرفتها مثلاً: يذكر الشيخ أحمد البهادلي في كتابه (محاضرات في العقيدة الإسلامية) نقلاً عن كتاب (الإسلام يتحدى) مثالاً مصدقاً لهذه الفكرة حول نبات الصبير(16).

- لقد قاموا في استراليا بزراعة نوع خاص من (الصبّار) لكي يحمي مزارعهم بما فيه من أشواك فانتشر الصبار انتشاراً رهيباً ومروعاً حتى استولى على منطقة توازي مساحة جزر بريطانيا وهاجم قراهم وضرب مزارعهم ولم يتمكنوا من استئصاله بأية طريقة واستمرت هذه الحالة حتى خرج علماء الحشرات وفتشوا عن دودة تأكله فاكتشفوا دودة لا تعيش إلا عليه ولا غذاء لها سواه وتتناسل بسرعة ولا عدو لها في حشرات استراليا وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على ذلك النبات ولعلنا قبل هذه العملية نقول أن وجود هذه الحشرة لا نفع فيه ومن أمثال هذه الحشرة النافعة يكتشف العلم نفعها بمرور الزمن وربما لا يحصل له شرف الاكتشاف فمن الصعوبة أن نحكم بعدم جدوائيتها لأول وهلة فلربما لا يظهر منها النفع إلا بعد حين ولربما نرى أضرارها من زاويتنا ولها منافع من زوايا الحياة الأخرى فسبحان الخالق المبدع المدبر.

فلذلك لا يمكن فصل الآثار الضارة عن غير الضارة فالجانبان هما جانبا الحياة فمع النور ظلام ومع الخير شر ومع العسر يسر، ومع هابيل قابيل ومع البياض سواد من باب الضد يكشفه الضد وكلّ حسب موقعه من خارطة الحياة كالرسوم الهندسية التي تحتل حيّزاً معيناً فالمثلث مجموع زواياه يساوي زاويتين قائمتين والمربع مجموع زواياه أربع زوايا قوائم فليس من المعقول أن يعترض أحدنا على هذا التقسيم بقوله لقد ظلمتم المثلث بحصته مثلاً.. فقد قال سبحانه:

(ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). [سورة طه، الآية 50].

ومن جملة فوائد الأضرار والآلام والأمراض والفقر والحرمان والبلاء على الإنسان بالذات أن شخصيته تصقل وتنضج لتتفجر طاقاتها لإزالة هذا البلاء من ناحية ومن ناحية أخرى تعتبر تربية الإنسان كاملة الصورة حينما يمرّ بالآلام والأضرار والنكبات فينكشف مدى صبره وتحمله للأذى وبالتالي تنمو حالة التقوى في القلب وتنحسر حالة الفجور وهكذا ستكون هذه الآلام لغفران الذنوب كما ورد في الأثر الشريف ولتقوية الروح الإيمانية لمقاومة الشيطان والهوى أي لصالح الإنسان. فلذلك نلاحظ الأنبياء (عليهم السلام) كانوا أشد الناس بلاءً واختباراً فأحدهم يبتلى بأولاده والآخر بمرضه وعلته والآخر بقومه والآخر بزوجته والآخر بالفقر وهكذا وسنتحدث في فصل النبوة عن بعض الأنبياء - حتى جاء رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) ليقول: (ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت) وهكذا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حتى ورد في الأثر المبارك على لسان أحدهم (عليهم السلام): (ما منا إلا مسموم أو مقتول) والقرآن الكريم يجعل الاختبار والنجاح في الاختبار من الأسس الرئيسية لتحقيق رضا الله سبحانه وبالتالي نيل الخير والجنان فقد قال سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). [سورة البقرة، الآية 155].

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): (حمّى يوم كفارة سنة) وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وآله): (إن الحمّى طهور من ربّ غفور)(17).

والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل) وبالفعل إن المؤمن ليجد راحته في تحمل العناء والجهاد والتعب على عكس غير المؤمن فإنه يجد راحته في الابتعاد عن المسؤوليات المقدسة، ونحن إذ نستقرئ الأفكار التي وردت في البداية تحت عنوان (حكمة أفعال الله) ورد موضوع الموت والفناء وبالفعل إنه مكروه وحزن حيث ورد - وقهر عباده بالموت والفناء - وفي الحقيقة أن الموت والحياة والآخرة والثواب أو العقاب وبمعنى آخر أن مرحلة الموت وما بعد الموت هي التي تجيب عن اكثر الإشكاليات التي يثيرها البعض حول العدالة الإلهية حيث أن الدنيا مرحلة يمر بها الإنسان - كما مر - بمراحل الأصلاب والأرحام فالدنيا حلقة من حلقات حياة الإنسان ومحطة من المحطات التي يمر بها الإنسان لأجل معلوم (الموت وما بعد الموت) أي أن هذه الحلقة من الحياة تترتب عليها الآثار سلباً أو إيجاباً وعلى ما أنجز من أعمال في الدنيا فـ(الدنيا مزرعة الآخرة) كما ورد وكلما كان الإنسان مطيعاً مؤمناً صابراً في الدنيا كلما تقرب في الآخرة إلى رضى الله سبحانه وكلما كان عاصياً مخالفاً ظالماً في الدنيا كان بعيداً عن رحمة الله في الآخرة إذن الاشكالات المثيرة في عالم الدنيا حول التوزيع العدل تنتهي حينما ندرك أن حلقة الموت وما بعد الموت متممة لحلقة الحياة الدنيوية ومترتبة عليها هذا من جهة ومن جهة أخرى إن مسألة الموت - كما أسلفنا - هي نهاية الحياة الدنيوية المبتسمة فهي القهر والحرمان والنقص والشؤم.. كل هذا التوهم يزول حينما نعرف أن الموت حلقة وصل بين طرفي الحياة الدنيوية والأخروية ولابد من الدخول للآخرة من خلال بوابة الموت ولله درّ الشاعر لقوله:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته***يوماً على آلة الحدباء محمول

وإذا رأيت جنازةً محمولةً***فاعلم بأنك بعدها محمول

فحياة الإنسان مسلسل زمني بعضه في الدنيا وبعضه بعد الدنيا فالآخرة هي الحيوان والاستقرار وصحيح أن الإنسان حينما يألف جماعة وطريقة حياتية معينة يصعب عليه فراقها وبالفعل الفراق قهر والموت قهر كما أن الطفل يولد من بطن أمه باكياً يريد البقاء على طريقة ألفها في حياته الجنينية المعتادة وحينما يدخل رحاب الدنيا بعد وعيه يضحك على تصوره الطفولي الساذج ويسخر من بكائه الفطري حباً لحياة الرحم وهكذا المؤمن الناجح والحائز على رضى الله تعالى يسخر من تصوره الساذج هو الآخر في تعلقه بالدنيا الفانية فقد جاء في الأثر الشريف (الناس نيام إذا ماتوا انتهوا) فإذن تزول هذه الرؤية الضبابية والتشاؤمية حينما نضع الدنيا والآخرة في موضع الحياة العامة المتكاملة قال سبحانه:

(أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون). [سورة المؤمنون، الآية 115].

وقال أيضا في محكم كتابه الكريم: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). [سورة الملك، الآية 2].

وقال في آية أخرى: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). [سورة العنكبوت، الآية 64].

أي أن الحياة الدنيا هي حلقة من حلقات حياة الإنسان وليست كل الحياة. والحساب في الآخرة سيصفي المظالم في الدنيا، يقول الإمام علي (عليه السلام): (اليوم عمل ولا حساب وغداً (يوم القيامة) حساب ولا عمل) وكما ورد في الحديث: (الدنيا مزرعة الآخرة) فما تزرعه من خير وبركة وعطاء في الدنيا هو الذي تحصده وتحصل عليه في الآخرة والعكس كذلك ولا بأس أن نسجل هنا ملاحظة خاصة وهي أن بعض المعاصي والآثام يلمس الإنسان آثارها السوداء كعقوبة طبيعية في الدنيا كشرب الخمر مثلاً فله أضرار طبيعية تلحق بالشارب عبر قانونها الطبيعي فالآثار الصحية والاجتماعية والنفسية واضحة الانعكاس من ارتكاب هذا الإثم كالبصمات السوداء على الصفحات البيضاء ومثال ما ورد في الأخبار - بشر القاتل بالقتل - وعملية القصاص من الظالم المعتدي على يد المؤمنين وهكذا وإنما ركزنا في جزاء الآخرة لكي لا نجهد أنفسنا في انتظار العقوبة الدنيوية للظالمين والآثمين ولتنقشع الشبهات العالقة بالعدالة حيث الحساب الدقيق للأعمال والأقوال والتصرفات. قال سبحانه:

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة). [سورة الأنبياء، الآية 47].


************************************************** *****************

14 - المطهري، العدل الإلهي، ص102.

15 - المطهري، العدل الإلهي، ص106.

16 - البهادلي، محاضرات في العقيدة، ص301 - بتصرف -.

17 - سفينة البحار، ج1، ص345.


ولي عوده بالتاكيد فانتظروني

 

 

 توقيع المتعب من جور الزمان :
التوقيع تحت الصيانه
المتعب من جور الزمان غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-07-2006, 06:47 AM   رقم المشاركة : 12
ريحانة الهدى
مشرفة سابقة
 
الصورة الرمزية ريحانة الهدى
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
االلهم صلِ على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و أهلك أعدائهم يا الله
سلمت يمناك أخيالمتعب من جور الزمان على هذا الموضوع الراااااااااائع
أحسنت الاختيار
هذه المواضيع نحتاجها بالخصوص في هذه الأيام لأن الكل أصبح يجهل العقيدة و ينجرف وراء التيارات المعاصرة
تُشكر أخي ولا تحرمنا من ابعاتك
في امان الله

 

 

 توقيع ريحانة الهدى :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
ريحانة الهدى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-07-2006, 12:06 AM   رقم المشاركة : 13
صديق الصمت
طرفاوي نشيط جداً
 
الصورة الرمزية صديق الصمت
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

اشكر اخي المتعب ولا حرمنا الله منك وجزاك الله خيرا
اريد ان اعتذر من الاخوان نيابة عن اخي المتعب من جور الزمان
لانه لا يستطيع ان يدخل المنتدى بسبب ظروفه
وقد اعطاني البحوث الباقيه وامرني ان اكملها لكم
اتمنى ان تدعون له بالتوفيق

 

 

 توقيع صديق الصمت :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
والشكر موصول للاخت إحساس ورد
طريقك الى الله طريق سعادتك فلا تتردد ان تمشي فيه
الصمت كالليل تبيح له بهمك فيساعدك على حمله ويسليك كما تسلي النجوم لياليها
كفاني عزا ان تكون لي ربا وكفاني فخرا ان اككون لك عبا انتي لي كما اريد فجعلني كما تريد
http://www.mislamih.com/mi/133.htm
http://www.zzrz.com/mlion.htm
صديق الصمت غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-07-2006, 12:17 AM   رقم المشاركة : 14
صديق الصمت
طرفاوي نشيط جداً
 
الصورة الرمزية صديق الصمت
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

الحسن والقبح الذاتيان العقليان


مسألة الحسن والقبح من المسائل المهمة في بحث العدل الإلهي حيث رأى بعض المسلمين أنه لا فائدة للجدال والنقاش ولابد من الإيمان القطعي بعدالة الله دون النظر والتمحيص فهو سبحانه المدبر القدير العادل وما يفعله صحيح وحسن فلا نقاش ولا جدال بعد ذلك ومن المؤكد أن هذه الفئة من المسلمين تمتاز بالسطحية والسذاجة لذلك لا تتدخل في مواضيع تظن بأنها ستتورط فيها حينما يحتدم النقاش وربما تخشى أن ينفلت منها زمام الإيمان فتلجأ لهذا الحل أو أنها تعتقد بأن هذه الإثارة وهذه الاستفهامات هي في غنىً عنها لذلك لا تبحث عن صفة العدالة إلا كصفة عابرة موجزة نابعة عن قناعات مترسخة بطريقة ساذجة وهي بهذا الفعل تترك تراكمات الشبهات عالقة في ذهنية الناس دون جواب فمصيرها محدد على مفترق طريقين فإما أن تموت هذه التساؤلات موتاً بطيئاً عبر القناعات البسيطة - كما قلنا - وهذا هو إيمان العجائز ولدينا - عليكم بإيمان العجائز - ويبدو أن ذلك مهم في التقية والمسائل الأمنية خوفاً من الجائرين - وأما الطريق الثاني للشبهات فهو طريق النمو والاستفحال بالفعل فإنها ستنمو وتكبر في ذهنية الناس حتى تنفجر بالانحراف والالتواء السلوكي أحياناً كما حدث ذلك مع بعض الشباب.

وفي تاريخنا الإسلامي تناولت مدرستان فكريتان هذه المسألة. ذهبت المدرسة الأولى إلى أن ميزان العدل والعدالة هو فعل الله سبحانه فكل ما يفعله الله هو عين العدالة وقالوا بوحدة الفاعلية لذلك رأوا كل الأعمال والأفعال في الكون صادرة عن الله عز وجل بما فيها إبداع الخلق والكائنات وافعال الإنسان والحيوان والحشرات كلها أفعال الله العادلة فلو أعطى الله سبحانه - مثلاً - للمظلوم حقّ الثأر أو لم يعطه حقه فهو عدل مطلق في كل حال لأنه من الله العادل فإذن لا يوجد مفهوم الظلم لديها على الإطلاق واستدلوا على رأيهم بأن القدرة الإلهية قدرة شاملة وعامة وغير عاجزة عن أداء كل أنواع الأفعال فلو لم يفعل الله تعالى الشر والظلم والفساد لكانت قدرته ناقصة وعاجزة عن بعض الأعمال فإذن كل الأفعال من الله سواء كانت خيراً أو شراً صلاحاً أو فساداً. فهم بفكرتهم هذه أرادوا تنزيه الله سبحانه من الشريك الفاعل ولكنهم نزهوا الطغاة والظالمين من ظلمهم وقبيح أعمالهم لأنهم نسبوا الأعمال كلها إلى الله القدير! - والعياذ بالله -.

قال الشهيد المطهري في العدل الإلهي: (لا مفهوم للظلم وهؤلاء لا يعرفون علامة العدل غير أنه فعل الله فكل فعلٍ هو فعل الله فهو إذن عدل وليس كل ما هو عدل فهو فعل الله وحسب وجهة نظرهم لا يوجد للعدل ضابط... فقد أنكروا العدل عمليّاً ولهذا السبب عرف مخالفوهم - وهم الشيعة والمعتزلة باسم (العدلية) إشارة إلى أن تفسير الأشاعرة للعدل إنما هو إنكار في الحقيقة لمضمون العدل... وأدى هذا إلى إنكار صفتي الحسن القبح العقليين بصورة جذرية فقالوا لا يعني مفهوم العدالة سوى كون الفعل منسوباً إلى الله)(18).

فعقيدة الأشاعرة أن الله خالق لعبده وما عمل، بينما مذهب المعتزلة إن العبد يخلق أفعال نفسه واستدل الأشاعرة على مذهبهم بالآية الكريمة في سورة الصافات، الآية 96: (والله خلقكم وما تعملون) فالله هو الذي خلق الخير وأراده من عباده وسهل لهم طريقه وخلق الشر ولم يرضه من عباده وحذرهم منه لقوله: (ولا يرضى لعباده الكفر). [سورة الزمر، الآية 7].

وللرد عليهم ببساطة نقول كيف يجيبون الله سبحانه وتعالى حيث نسب الظلم إلى العباد في اكثر من آية في القرآن المجيد فقال سبحانه: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وفي آية أخرى يصف المنحرفين: (... ففسقوا فيها...) وما ندري كيف يواجهون هذه الآيات الواضحة في تحميل المظالم على العباد.. أما الآية الكريمة (والله خلقكم وما تعملون) سبقتها الآية (قال أتعبدون ما تنحتون) فهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم (والله خلقكم وما تعملون) أي وخلق ما عملتم من الأصنام فكيف تدعون عبادته وتعبدون معمولكم؟ وهذا كما يقال فلان يعمل الحصير وهذا الباب من عمل فلان النجار، قال الحسن معناه وخلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام وهذا يجري مجرى قوله: (تلقف ما يأفكون) وقوله تلقف ما صنعوا في أنه أراد المنحوت من الجسم هنا دون العرض الذي هو النحت الذي كما أراد هناك المأفوك فيه والمصنوع فيه من الحبال والعصي دون العرض الذي هو فعلهم فليس لأهل الجبر تعلق بهذه الآية في الدلالة على أن الله سبحانه خالق لأفعال العباد لأن من المعلوم أن الكفار لم يعبدوا نحتهم الذي هو فعلهم وإنما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام. وقوله ما تنحتون هو ما يعملون في المعنى على أن مبنى الآية على التقريع للكفار والازراء عليهم بقبيح فعلهم ولو كان معناه والله خلقكم وخلق عبادتكم لكانت الآية إلى أن تكون عذراً لهم اقرب من أن تكون لوماً وتجنياً. ولكان لهم أن يقولوا ولم توبخنا على عبادتها والله تعالى هو الفاعل لذلك؟ فتكون الحجة لهم لا عليهم ولأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله تعملون فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى وهذا تناقض(19).

أما المدرسة العدلية فذهبت إلى أن العقل يرى أن العدل حسن بذاته والظلم قبيح بذاته وبما أن الله سبحانه هو الخالق المدبر للكون بما فيه الإنسان، فقد أفاض على العباد نعمة العقل (فهو إذن لا يترك عملاً يحكم العقل بحسنه ولا يفعل عملاً يحكم العقل بقبحه)(20) فتحكم بأن الله عز وجل منزه عن الظلم وعن فعل القبيح والفساد.

(ما الله يريد ظلماً للعباد). [سورة غافر، الآية 31].

(والله لا يحب الفساد)3. [سورة البقرة، الآية 205].

فهذه المدرسة لم تنف الفاعلية عن غيره تعالى ولم ينفوا الظلم الاجتماعي والفساد ورفضوا مبدأ الفاعلية الواحدة لجميع الأفعال واعتبروا الحسن والقبح عقليين ذاتيين. فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): (حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد ونبي الله العقل)(21). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه)(22).

فمن هنا ندرك معنى العدالة الإلهية في النظام المتوازن الدقيق في العالم من الذرات والالكترونات إلى المجرات ومن عالم النبات والحيوان إلى الحشرات والديدان فكل السنن الكونية والقوانين التي تسير عليها الطبيعة وهذا الإنسان المخلوق العجيب الذي يعتبر بحد ذاته معجزة فريدة فقد قال سبحانه: (.. وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات) يقول الدكتور كارل - لا شيء أقرب إلينا منا ومع ذلك فإن في هذا الجسم من الأسرار الكثيرة ما لا علم لنا بها - وأكثر من ذلك وضع قوانين العدالة الاجتماعية فردّ المظالم وقانون العقوبات الإسلامي من كفارات وديات وقصاص للمحافظة على توازن المجتمع خلقياً واجتماعياً وبعد كل ذلك هنالك يوم الحساب حيث المحاسبة الدقيقة التي تجريها محكمة العدل الإلهي إيجاباً أو سلباً - كل ذلك يجعلنا نؤمن بعدالة الله سبحانه وتعالى وأن الحسن والقبح ذاتيان عقليان.


************************************************** *****************

18 - المطهري، العدل الإلهي، ص50.

19 - مجمع البيان في تفسير القرآن للعلامة الطبرسي، المجلد 5، الجزء 23، ص70.

20 - المطهري، العدل الإلهي، ص52.

21 - أصول الكافي، ج1، ص25.

22 - أصول الكافي، ص442.

 

 

 توقيع صديق الصمت :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
والشكر موصول للاخت إحساس ورد
طريقك الى الله طريق سعادتك فلا تتردد ان تمشي فيه
الصمت كالليل تبيح له بهمك فيساعدك على حمله ويسليك كما تسلي النجوم لياليها
كفاني عزا ان تكون لي ربا وكفاني فخرا ان اككون لك عبا انتي لي كما اريد فجعلني كما تريد
http://www.mislamih.com/mi/133.htm
http://www.zzrz.com/mlion.htm
صديق الصمت غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-07-2006, 12:22 AM   رقم المشاركة : 15
صديق الصمت
طرفاوي نشيط جداً
 
الصورة الرمزية صديق الصمت
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

قاعدة اللطف الإلهي


هي العناية الإلهية العامة بعباده وتشمل جميع التسهيلات الربانية في العبادة والطاعة وجميع أنواع الرحمة والحنان لعموم البشر فقد قال سبحانه:

(الله لطيف بعباده). [سورة الشورى، الآية 19].

(إن الله لطيف خبير). [سورة الحج، الآية 63].

(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). [سورة البقرة، الآية 185].

(ما جعل عليكم في الدين من حرج). [سورة الحج، الآية 78].

(... ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون). [سورة الحجرات، الآية 7].

(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). [سورة الأنبياء، الآية 107].

وقال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (جئتكم بالشريعة السمحة السهلاء) - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) من خلال النصوص المقدسة يتضح لنا مدى لطف الله بعباده وعنايته المتميزة بالإنسان فيريد بنا اليسر ويحبب لنا الإيمان ولا يحملنا فوق طاقتنا من الحرج والعسر ويبعدنا عن ارتكاب المعاصي فهو لطيف وخبير.

هذا الدعم الغيبي الملموس نسميه - قاعدة اللطف الإلهي - وتكون شاملة للحياة الشخصية والاجتماعية والنفسية... فالله تبارك وتعالى يوفّر مناخاً معيناً وأجواءً مناسبة تساعد الإنسان على معرفة دينه وإقامة أحكامه وأداء واجباته وإقامة عباداته وعلى المستوى الفكري تساعده الأجواء على التوصل بالبرهان لمعرفة الله وقدرته وعظمته ففي هذا الإطار الإيماني الساخن يندفع الإنسان لطاعة الله ويبتعد عن معاصيه وكل إنسان مؤمن يستطيع أن يحصي وقفات مهمة في حياته الشخصيّة ويتذكرها إنه كاد أن يقع فريسة في شراك الشيطان والعدو ولكن عناية الرحمن تتدخل في الوقت الصعب ليتم انقاذه.

(وما أبرّئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). [سورة يوسف، الآية 53].

وفي بعض الأحيان تبرز هذه العناية الإلهية بشكل لا يقبل أدنى شك أنها عناية ملموسة يشعر بها الإنسان المؤمن في أحلك الظروف وأعسر الأوقات وأكثر من هذا نلاحظ نفس الشعور وبنفس الدرجة عند عموم الناس حتى غير المؤمنين من أولئك الذين يمرّون بمشاكل صحيّة ونفسية متأزمة ومفاجآت انتكاسية في حياتهم - هنا في اللحظة المهمة تتجسد أمامهم عناية الرحمن بأجلى صورها حيث يسبب الأسباب بتدبيره فينقذ الإنسان من أزمته ونقرأ في الدعاء (... يا مسبب الأسباب...) (ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب) ومن أبرز صور العناية الإلهية إرساله الأنبياء (عليهم السلام) هداةً ومصلحين وختم رسالات السماء بالقرآن الكريم ومن عنايته لم يترك الأمة الإسلامية دون قيادة شرعية مستمرة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فنصب لنا الأئمة الأطهار قادةً وهداة كي تستقيم المسيرة الفكرية والتطبيقية العملية للشريعة الإسلامية، ومن ألطافه ومننه أنه شمل عباده بعطفه وحنانه مادياً وصحياً وروحياً كي يسعدهم في حياتهم الدنيوية ويوم يقوم الحساب ومن لطفه أن الدين الإسلامي دين السماحة واليسر والاستيعاب لكل الظروف القاسية إزاء أداء الواجبات الدينية كالعبادات بالتحديد فالصلاة واجبة بالصورة المألوفة شرطاً كالطهارة وأركاناً وأجزاءً فإذا مرّت ظروف لن تسمح باستخدام الماء في الطهارة يتحول المسلم للطهارة الترابية، وإن لم يستطع القيام في الصلاة فليجلس أو يستلق وإن كان خائفاً فهناك صلاة الخوف على ما موجود في الرسائل العملية لفقهاء الإسلام من تفصيل ومراعاة لكافة الظروف المتوقعة.

وكذلك من ألطاف الله أنه يعطي للجميع فرص الاستقامة والخير والصلاح ويعطي للجميع البركات والأرزاق فنقرأ في الدعاء: (.. يا من يعطي من سأله ويا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة...).

وبهذه القاعدة - اللطف الإلهي - يتجاوز الله كثيراً عن المسيئين والمخطئين حيث رحمته المباركة تسع كل شيء فلذلك تعلمنا السنة بالدعاء التالي (اللهم عالمنا بلطفك ولا تعاملنا بعدلك). (اللهم إني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء...). فهو رحيم ورحمن ومنّان وحنّان والممتحن لعباده والآمر لهم بالطاعة بملء إرادتهم دون إكراه وقسر (لا إكراه في الدين) ليظهر واقع الإنسان المؤمن عن غيره ويكتشف قوة إيمانه والتزامه وحبه أو بالعكس - لا سمح الله -.

يقول سبحانه: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). [سورة الملك، الآية 2].

وجعل التكليف الإلهي من لطفه بعباده يسيراً بالإمكانيات المتوفرة فيقول (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها...) كي لا يدفع الإنسان إلى الزاوية الحرجة في تطبيق أوامره.

 

 

 توقيع صديق الصمت :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
والشكر موصول للاخت إحساس ورد
طريقك الى الله طريق سعادتك فلا تتردد ان تمشي فيه
الصمت كالليل تبيح له بهمك فيساعدك على حمله ويسليك كما تسلي النجوم لياليها
كفاني عزا ان تكون لي ربا وكفاني فخرا ان اككون لك عبا انتي لي كما اريد فجعلني كما تريد
http://www.mislamih.com/mi/133.htm
http://www.zzrz.com/mlion.htm
صديق الصمت غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-07-2006, 12:25 AM   رقم المشاركة : 16
صديق الصمت
طرفاوي نشيط جداً
 
الصورة الرمزية صديق الصمت
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

الشبهات والرد عليها


وردت جملة من الشبهات أثناء البحوث الماضية حول العدالة الإلهية ولأهمية بحث الشبهات أفردنا له حلقة فيما تبقى من البحث موضحين بعض ما ذكرنا.


ويتلخص البحث في الشبهات التالية:

أ - بعض أفعاله تعالى بعيد عن الحكمة - ظاهراً -.

ب - شبهة خلق الكافر والمنافق والشقي.

ج - هل الشفاعة يوم القيامة من العدل الإلهي؟

د - التكاليف الشرعية هل تناسب العدل الإلهي؟

هـ - لماذا خلقنا الله سبحانه؟

و - العذاب والبلاء والنكبات على المؤمنين والطيبين غالباً.

ز - الدعاء على الظالمين لماذا لا يستجاب دائماً؟


الشبهة الأولى: بعض أفعاله تعالى بعيد عن الحكمة - ظاهراً -

لقد تحدثنا في فصل حكمة أفعال الله وبيّنا هنالك أن الإنسان لا يستطيع أن يحيط الوجود علماً ومعرفة فلربما يرى شيئاً يعتبره ضاراً وسلبياً وبعد فترة يكتشف أثره الإيجابي في الحياة فغياب الحكمة عن الإنسان ليس دليلاً على عدم وجود الحكمة وأوضحنا كذلك فكرة الضرورة التكوينية في الخلق فجزء من خلايا الإنسان ظاهر وجزء غير ظاهر وجزء في ظلمات التجاويف الداخلية وجزء في الواجهة الظاهرية ولابد من التكاملية وتوزيع الأدوار كضرورة تكوينية - الواحد يكمل دور الآخر - فلربما الأول غير ظاهر الحكمة ولكنه ضروري لإظهار حكمة الثاني - وهكذا -.

فإذن لا يوجد من أفعال الله بعيد عن الحكمة وإنما قد يتوهم قاصر النظر ذلك. فكل أفعاله وأحكامه حكيمة وهادفة ولا عبرة بالتوهم البيّن خطأه.


الشبهة الثانية: شبهة خلق الكافر والمنافق والشقي

بيان الشبهة: إن الله تعالى يعلم بكفر الكافر وكذب المنافق وظلم الشقي من بداية حياتهم وقبل ارتكابهم للمعاصي وهذا العلم لابد أن يتحقق فلو لم يتحقق يعني أن هذا الأمر قد خالف علم الله أو بمعنى آخر كان الله جاهلاً أو خاطئاً في حالة عدم الوقوع - والعياذ بالله - ومن جهة أخرى إن الكافر لا يستطيع إلا أن يكفر والمجرم لابد أن يعصي وذلك تصديقاً لعلم الله عز وجل.

والجواب على الجزء الثاني من الشبهة قد تحدثنا عنه فيما سبق بالجبر والتفويض في الأعمال والتصرفات أما الجزء الأول من الشبهة فمن الممكن أن يكون لأول وهلة من الأمور العصيبة لكن ببعض الوضوح نلاحظ انقلاب السحر على الساحر - ففي الحقيقة إن العلم بالشيء لا يصنع واقع ذلك الشيء بل لا يؤثر في تحقيقه أبداً كما أنك تعلم أن القوة الكهربائية بإمكانها أن تقتل الإنسان لو مسّها مباشرة وكذلك تعلم أن أمواج البحر المتلاطمة لا تتحطم على صدر الإنسان بل هو سيتحطم أمام ضربات أمواج البحر العاتية فيموت الإنسان المعترض لها وأنت تعلم أن الطفل لو سقط من الطابق العاشر إلى الأرض سيموت.. وإذا دهسته سيارة كبيرة سيموت أيضا.. هذا العلم واليقين هل يصنع الموت لأخي وصديقي وطفلي فلو قدّر أن مات صديقي بالكهرباء أو بالغرق أو مات الطفل سحقاً بالسيارة هل أن علمي المسبق بالنتيجة هو السبب في ذلك؟ ونفس المثال ينطبق على علمي بأن الأخ المنحرف الذي اختار طريق الفساد إلى آخر حياته فإنه سيهلك في النار فهل إني أدخلته هذه المهلكة لمجرد علمي بالنتيجة؟ وخاصة لو عرفنا أن المسألة محاطة بمجمل أسباب ومسببات وعلل ومعلولات وهذا ما يفسره قول النبي نوح (عليه السلام) كما ورد في القرآن الكريم:

(إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً). [سورة نوح، الآية27].

هذا العلم من النبي (عليه السلام) بنتيجة أبناء المنحرفين هل إنه هو السبب في انحرافهم وهل من عاقل يدّعي ذلك؟ والمعروف أن رسالة الأنبياء هي رسالة الإصلاح والتغيير ولكن هذه القناعة بانحراف الأجيال القادمة من أولاد المنحرفين وجدت للنبي نوح (عليه السلام) عبر أسباب ومسببات وتجارب وخبرات، إضافة لذلك نلاحظ أن الإنسان في وجدانه يعرف أنه مخيّر في أعماله وسلوكه وقد مر معنا - في موضوع الجبر والتفويض - فبمجرد علمي بأن أحد طلابي مثلاً سيختار فرع الرياضة البدنية في دراساته الجامعية أو كاختصاص في دراسته العليا وعلمي بأن احدهم سيختار الطب البشري اختصاصاً مفضلاً وله القابلية في ذلك هل إني صنعت الاختيار لهما أم أن الطالب بملء إرادته وخصوصياته المتأثرة بمجمل الأسباب المحيطة والموروثة أحياناً ومن جملتها الدرجة المؤهلة والاستعداد النفسي وغيرهما فبالنتيجة يختار لنفسه مستقبله فإذن مجرد علمي بالنتائج ليس هو السبب الصانع للواقع الخارجي كما هو معروف من خلال الأمثلة المتعددة.

وهكذا بالنسبة للشقي والظالم حيث تساهم الظروف غير المستقيمة في خلق هذه النفسية الدموية المتكبرة فمثلاً ابن الزنا وآكل مال اليتيم وآكل الحرام، صحيح أن هؤلاء قد أثرت فيهم الظروف التعيسة التي جنت عليهم من آبائهم أو محيطهم كما ورد في الأثر (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) أو من أعمالهم الشريرة كشرب الخمر والمقامرة والربا... ولكن هذه الظروف بشكل أو بآخر تخلق عنده حب العمل الشرير ضمن مناخ نفسي مناسب ومع ذلك فإن ممارسة العمل الانحرافي بحاجة إلى قرار الإنسان حيث الاختيار الإرادي فبإمكان ابن الزنا أن يحترم حقوق الناس ويطيع الله ويحافظ على استقامته ليتقرب إلى الله وبإمكانه أن ينتقم ويبطش بالمجتمع متى ما سنحت له الفرصة للانتقام ثأراً من الجناية على أمه. لذلك نلاحظ صلاحية ابن الزنا في الإسلام أقل من صلاحيّة ومنزلة الابن الشرعي ومع ذلك فأمام ابن الزنا فرص للاستقامة وإن كان الأمر فيه نوع من الصعوبة كالتائب من الذنب فبإمكانه أن يتوب ويعود إلى الطريقة المستقيمة التي يختارها لنفسه مخالفةً لهواه.

إذن فالمسألة طبيعية وليست خادشة لعدل الله سبحانه حيث خلق الله الكافر والمنافق والشقي وذلك لأن الله قد وفّر فرصاً متساوية للجميع لغرض الاختيار وزوّدهم بالعقل المميّز والمدرك للمصلحة وهو العادل (سبحانه) وميزانه دقيق فقد قال في محكم كتابه الكريم:

(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). [سورة الزلزلة، الآيتان 7-8].

و(إن الله لا يظلم مثقال ذرة...). [سورة النساء، الآية 40].

بل إن ميزانه العادل في منتهى الدقة والعدالة فالله سبحانه يقدّر لهذه الظروف المحيطة بالشقي التي سببت قلقه من دون إرادته ومدى معاناته من هذه الظروف القاسية التي جاءته عبر معاصي أبيه مثلاً فكل الأمور تؤخذ بالحسبان في ميزانه يوم القيامة وتبقى في الدنيا مسألة الاختيار بيد الإنسان فكم من الأولاد الشرعيين هم وقود جهنم لانحرافهم وكم من الأولاد غير الشرعيين تظهر استقامتهم في الدنيا لإصرارهم على المبدأ القويم. فقد قال سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فالمفروض أن نعبده تعالى رغم كل الظروف والتراكمات السلبية المورثة أو القادمة من جراء الأعمال الخاطئة التي يمارسها الإنسان، فالإنسان لديه القدرة في صياغة نفسه بالطاعة والاستقامة مهما كانت ظروفه النفسية والوراثية والاجتماعية.

يقول سبحانه: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب). [سورة الطلاق، الآيتان 2-3].


الشبهة الثالثة: هل الشفاعة يوم القيامة من العدل الإلهي؟

لما استحق المجرمون عقاب الله عز وجل يأتي الشفيع ينقذ المجرم من العذاب برأفته ورحمته مستغلاً منزلته عند الله وبهذا تصبح رحمة الشفيع هذا أوسع من رحمة الله تعالى! فينقذ من العقاب جماعة من المذنبين لهذه الوساطة ويترك جماعة من المذنبين في العقاب الأليم. هل هذه الشفاعة وبهذه الكيفية من العدالة الإلهية؟

في الحقيقة إن هذه الشبهة وبهذا الأسلوب من الطرح نلمس فيها كثيراً من التداخلات في المفاهيم وعموماً لو سايرنا أصحاب هذه الشبهة يفترض علينا تفكيك تداخلاتها وتوضيح الرد عليها.

فالشفاعة على شكلين، شكل مرفوض شرعا وعقلاً وهذا ما يردده اكثر الناس فقد قال تعالى:

(واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون). [سورة البقرة، الآية 148].

والشكل الثاني للشفاعة ما نسميه بالشفاعة المقبولة شرعاً وعقلاً وهو الشكل الثاني. فقد قال تبارك وتعالى:

(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً). [سورة النساء، الآية 64].

فاستغفار الرسول لهم هو جزء من عناية الله ولطفه فلا تعارض بين الأمرين والإراديتين بل أن شفاعة الرسول وطلب المغفرة لهم من الله عز وجل بالنتيجة فالشفاعة بيد الله كما قال سبحانه في آية أخرى:

(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). [سورة الأنبياء، الآية 28].

(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم..). [سورة البقرة، الآية 255].

إذن الشفاعة هي من الله العظيم. فهو مصدر العفو والمغفرة والتجاوز وهذه هي الشفاعة الصحيحة والمقبولة بينما الشفاعة الباطلة هي التي تنصب إرادةً ما فوق إرادة الله وأي فرق بين هذا التصور ووضع شريك الله - سبحانه - فقد قال في القرآن الكريم:

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). [سورة النساء، الآية 116].

فالشفاعة المشروعة قد جعلها الله وسيلة للوصول إلى رضاه ومغفرته حيث قال في محكم الكتاب العزيز:

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة). [سورة المائدة، الآية 35].

فالوسائل الموصلة إلى رضوان الله تعالى من أبرزها الشفاعة المشروعة من قبل أولياء الله للمذنبين والعاصين فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً)(23).

فالحسين وسيلة شرعية بحبه يتحقق حب الله والذي يحب الله يطيعه ولا يعصيه فالسير على منهجية الإمام الحسين يعني إطاعة الحسين وطاعة الحسين تعني إطاعة النبي وإطاعة النبي إطاعة الله:

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). [سورة النساء، الآية 59].

وفي الرواية: (الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا كالراد على النبي والراد على النبي كالراد على الله والراد على الله كحد الشرك به).

فإذن الشفاعة والصفح والتجاوز ضمن المقاييس الشرعية والوسائط المشروعة تصل نتيجتها إلى الله تعالى:

(قل لله الشفاعة جميعاً). [سورة الزمر، الآية 44].

(ما من شفيع إلا من بعد إذنه). [سورة يونس، الآية 3].

فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو الشفيع الأول يوم القيامة لأنه وسيلة الله لعباده (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهي ضمن المقاييس الشرعية فقد ورد - يدخل النار ولو كان سيداً قرشياً ويدخل الجنة ولو كان عبداً حبشياً -.

إذن الموازين المطلوبة ليست هي القرابة أو الأعمال السطحية وإنما بالقيم الإيمانية وضمن القنوات التي حددها سبحانه وتعالى تتم الشفاعة بإرادة الله من دون أي تأثّر أو تأثير فقد قال سبحانه في محكم الكتاب العزيز:

(الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم). [سورة غافر(المؤمن)، الآية 7].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(24).

من هنا نستخلص فكرة الشفاعة من القرآن الكريم حيث الشفاعة المشروعة عكس ما يتصور البعض أنه سينال الجنة دون صلاة وصيام والواجبات الأخرى بل بمجرد بعض المستحبات، وفي الروايات - من بكى وأبكى وتباكى غفرت ذنوبه ووجبت له الجنة، ولكن مع شرطها وشروطها. فالشفاعة حق يتحقق ضمن وسائل الله المشروعة فللمؤمن الذي يقول بيتاً من الشعر في مصاب الإمام الحسين يرزقه الله بيتاً في الجنة - من قال فينا بيتاً من الشعر رزقه الله بيتاً في الجنة - أما غير المؤمن فلا تشمله هذه الشفاعة، لأن المؤمن سلك المسلك الإلهي حيث وسيلة الله بينما غيره هو الذي نصب نفسه متوهماً في تجاوز إطاعة الله ورسوله والإتيان ببعض المستحبات لنيل الشفاعة والحال إن شفاعة النبي والأئمة هي كرامة ومنحة من الله سبحانه للنبي والقرآن فإنه شافع مشفع والأئمة الأطهار والمؤمنين الصالحين وهذه الكرامة هي من رحمة الله فلو شملت بعض العاصين فإنها تشملهم بعد استيفاء العدل الإلهي حقه من عصيانهم حيث تصفية الحساب في الدنيا أو في عالم البرزخ (القبر) أو سنوات من العذاب الأليم في الآخرة وهكذا. فإذن الشفاعة المشروعة هي عين اللطف الإلهي والعناية الإلهية والعدل الإلهي أيضا.


الشبهة الرابعة: التكاليف الشرعية هي تناسب العدل الإلهي؟

حينما نتتبع الأحكام الشرعية نلاحظ بعض الأحيان نوعاً من القساوة والشدة والتكليف فوق الطاقة الإنسانية - حسب الرؤية الظاهرية - مثال ذلك الفتاة حينما تنهي التاسعة من عمرها يوجب عليها فرض الصلاة والصوم والواجبات الشرعية الأخرى في حين تراها في هذا العمر صغيرةً لا تتحمل حرّ الصيف في صيام شهر رمضان ومثال آخر نشاهد القسوة ظاهرة في القصاص والحدود التي تقام على الجُناة. فقطع يد السارق وجلد الزاني.. وما شابه...

كيف يمكن أن نستوعب هذه الشبهة ونوجهها إسلامياً؟ وتبدو لي أن هذه الشبهة التي يتشدق بها بعض المصلحين الغربيين والمستشرقين بالذات ودعاة السماح أولئك الذين لبسوا ملابس القديسين وحقوق الإنسان وأعلنوا دفاعهم عن كرامة وشرف الإنسان أنها انعكست - هذه الشبهة - في لا شعور مجتمعنا واصبح البعض يردد كلماتهم بأن الإنسان يخطئ فلماذا هذه الصرامة المؤذية؟ ولماذا إراقة الدماء لخطأ معين؟

والإجابة على هذا النوع من الشبهات تحتاج إلى حديث طويل ولكن نحاول أن نتحدث بالأساسيات دون الهوامش مراعاة لظروف وطبيعة هذه الرسالة وقبل الخوض في الإجابة لابد من كلمة صغيرة تفتح لنا المجال ألا وهي أننا نؤمن بأن الله سبحانه قد خلقنا وأودع فينا الغرائز والشهوات: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها..). [سورة الشمس، الآيات 7-10].

فالخالق المبدع المدبر يعلم خفايا النفس وكيف تستقيم وتهتدي وكيف ترتدع عن المنكر والمحرمات وهو الذي يعلم الأسلوب المناسب لردع الإنسان عن ارتكاب الجرائم والآثام وتكرارها لغرض تطويقها والتخلص منها بشكل جدي وقطعي لضمان الصلاح النفسي والاجتماعي فهذا الإيمان يجعلنا - طبيعياً - نقول أن الله عز وجل بتقديره الحكيم سن القوانين وحدّد موعد بلوغ الفتاة وسنّ الحدود والقصاص عن حكمة دقيقة لغرض التربية الصالحة وردع النفس الأمارة بالسوء عن المنكرات.

ومن ثم نقول إن الله ما أراد بالشريعة الإسلامية إلا الخير والمعروف والصلاح (إن الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فالنبي (صلى الله عليه وآله) بعث بالشريعة السمحاء فقد قال (صلى الله عليه وآله): (إن الله عفوّ يحب العفو)(25).

فالتكاليف الشرعية ليست بحاجة إلى بذل قصارى جهد الإنسان وإنما تشكل جزءاً من وقته وجزءاً من ماله وفي فترات الجهاد قد تكلف نفسه وهذه التربية الهادفة لبناء صرح الدين في المجتمع تنفعه على المستوى الشخصي والاجتماعي أيضا فهو بحاجة إلى مثل هذه التربية الهادفة والصارمة لكي يستطيع خوض الحياة الاعتيادية بنجاح فليتحمل الإنسان من التعب والجهد والجوع والعطش والسفر إلى بيت الله الحرام والبذل المالي في الزكاة والخمس والحج. ليُمرّن نفسياً وتربوياً لتحمل الصعاب بأنواعها في الحياة ومن ثم يتهيأ للدور الأكبر لو أرادت منه العقيدة تضحيات أكثر.

أما القصاص والحدود فذلك أمر يحقق عين العدالة فلو تسامحنا عن القصاص لبقي الحق مهدوراً وهذا عين الظلم فالحدود والتعزيرات تقام مع توفر الشروط الموضوعية الإسلامية لتحقق هدفين هدف التوبيخ الشديد للجاني وللناس بشكل عام لغرض الاعتبار فإنهم يرتدعون أمام العقوبة الصارمة وهدف أخذ الثأر بالشكل المشروع من الجاني لتهدئة المجني عليه ولفض النزاع بالشكل العادل بدلاً من ترك المسألة جانباً لتتفاقم الأزمة في النفس كعقد نفسية مستعصية الحل لتنفجر في ظلم اجتماعي كبير في المستقبل.

وإضافة لذلك فإن هنالك مجال للتصالح والتنازل في بعض المرافعات المشروحة في كتب الفقه الإسلامي. مما يجعلنا نقول إن هذه التعاليم مناسبة جداً للعدل الإلهي حيث أنها لصالح الإنسان أولاً ثم البشرية ثانياً.


الشبهة الخامسة: لماذا خلقنا الله سبحانه؟

قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين). [سورة الأنبياء، الآية 16].

وقال في آية أخرى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [سورة الذاريات، الآية 56].

و(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). [سورة الملك، الآية 2].

فإذن إن لخلق الإنسان والحيوان والكواكب والنجوم والبحار والهواء أهداف وليست المسألة عبثيّة فالله خلقنا لكي يعرف وتعرف قدرته ومن ثم ليمتحننا في الحياة الدنيا ويجزينا بالآخرة على ضوء ما نفعله في الدنيا. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (... ما خلقهم ليجلب منهم نفعة ولا ليدفع بهم مضرة بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد).

وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (خلقهم لإظهار حكمته ونفاذ علمه وإمضاء تدبيره).

فالإنسان مخلوق الإلهي متميّز وفّر له الله عز وجل طاقات كبيرة لتسخير قوانين الطبيعة لصالحه ولعمارة الكون بعمله وعبادته لله تعالى.


الشبهة السادسة: العذاب والبلاء والنكبات على المؤمنين والطيبين - غالباً - لماذا؟

قال سبحانه: (الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). [سورة العنكبوت، الآيات 1-3].

للعذاب والابتلاء في الدنيا أكثر من هدف ومن الأهداف الرئيسية اكتشاف المؤمن الصابر على البلاء فالفتنة والامتحان العسير والابتلاء كل ذلك يكشف الجوهر الذاتي للإنسان ويميزه على المظهر ففي الرواية: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، سجنه قياساً بالآخرة حيث الجنة والأرزاق فمحل السجن أي الدنيا محل الابتلاء والاختبار. ومن الأهداف نيل الأجر والثواب في الآخرة - وكما فسّرنا سابقاً - أن الدنيا والآخرة وجهان للحياة العامة الواحدة فالآخرة امتداد للدنيا والدنيا مزرعة الآخرة.

أما منطوق الشبهة بأن العذاب على المؤمنين - غالباً - فهو غير دقيق وإن كان كذلك فهو للاختبار كما قلنا والمؤمن كما يصفه الإمام علي (عليه السلام): (وقور عند الهزاهز، ثبوت عند المكاره، صبور عند البلاء، شكور عند الرضا... الناس منه في راحة ونفسه منه في تعب)(26).


الشبهة السابعة: الدعاء على الظالمين لماذا لا يستجاب دائماً؟

الدعاء وسيلة للتعبير عما يجري في داخل النفس وطموحاتها والقرار النهائي بيد الله عز وجل فمن المشهور في الحديث القدسي: (الظالم سيفي انتقم به وانتقم منه) وورد في الحديث (كيفما تكونوا يولّ عليكم) وفي الرواية: إن تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يولى عليكم شراركم فتدعون فلا يستجاب لكم.

إذن للدعاء مفاتيحه المشروعة وأرضيته المطلوبة فإن اكتفى المجتمع بالدعاء اللفظي دون العمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن الطبيعي ألاّ يستجاب دعاء الداعي أو أن هنالك ظروف موضوعية بالمجتمع يرى الله سبحانه من الصالح بقاء الظالم على ظلمه إلى إشعار آخر. أما الداعين العاملين فيدعون ربهم من باب:

(وقال ربكم ادعوني استجب لكم). [سورة غافر، الآية 60].

لهم أجرهم في نجاح أعمالهم وقبول دعواتهم ولكن للظروف الموضوعية القائمة تؤجل الاستجابة ولربما لصالح المجتمع المؤمن ذاته ونحن لا نعرف ذلك.

وهذا الحديث يجرنا إلى أن الأعمال الصالحة من غير المسلمين المؤمنين هل تلقى أثراً حسناً عند الله ما دام أن دعاء المؤمنين غير الآمرين بالمعروف لا يلقى أثراً مناسباً.

والحقيقة أن القرار النهائي بالقبول وعدمه بيد الله سبحانه والملاحظ أن الأعمال الصالحة من البر والإحسان الصادرة من المؤمنين بالله والحساب والعقاب تصعد إلى درجة القبول عند الله بشرط النية المخلصة ولو كانت النية قلقة الإخلاص فنسبة القبول بيد الله تعالى حسب نسبة القلق التي لا يضبطها سواه (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) كما قال القرآن الكريم في سورة غافر، الآية 19.

أما أعمال البر والإحسان كإنشاء المستشفيات وبناء الجسور للخدمات العامة لجميع الناس هذه الأعمال الصادرة من غير المؤمنين فالأمر يعود إلى الله المدبر المقدر حيث يميّز نياتهم فإن كانت النية لوجه الله الكريم فإنها تساهم في تخفيف عذابهم وإسعادهم في الدنيا بالذات والمهم في المسألة أنها تربط بالنية القلبية وهم يفدون على الحي الكريم فإن كان عدم الإيمان صادر من تعصب وعناد أو كان من قصور لا تقصير فالمسألة فيها تمييز ومميزها حساب الله الدقيق:

(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). [سورة الشعراء، الآيتان 88-89].

وهكذا تنسحب المسألة على المخترعين الذين أفادوا البشرية بخدماتهم والآية الكريمة تقول:

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). [سورة المجادلة، الآية 11].

فللمؤمن درجة وللمؤمن العالم درجات كما يذهب العلامة الطباطبائي في ميزانه فربما يجزي الله ذلك العالم غير المؤمن الذي خدم البشرية بعلمه جزاءً حسناً في الدنيا فيهيّئ له أسباب المعيشة الدنيوية بعيدة عن المنغصات.

************************************************** *****************


23 - ميزان الحكمة، ري شهري، ج1، ص243.

24 - ميزان الحكمة، ري شهري، ج5، ص117.

25 - ميزان الحكمة، ري شهري، ج6، ص367.

26 - ميزان الحكمة، ري شهري، ج1، ص332.

 

 

 توقيع صديق الصمت :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
والشكر موصول للاخت إحساس ورد
طريقك الى الله طريق سعادتك فلا تتردد ان تمشي فيه
الصمت كالليل تبيح له بهمك فيساعدك على حمله ويسليك كما تسلي النجوم لياليها
كفاني عزا ان تكون لي ربا وكفاني فخرا ان اككون لك عبا انتي لي كما اريد فجعلني كما تريد
http://www.mislamih.com/mi/133.htm
http://www.zzrz.com/mlion.htm
صديق الصمت غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-07-2006, 12:28 AM   رقم المشاركة : 17
صديق الصمت
طرفاوي نشيط جداً
 
الصورة الرمزية صديق الصمت
 





افتراضي مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام

النبوة





النبوة معنى وضرورة


المعنى اللغوي للنبي هو الإنباء يعني الإخبار عن الله عز وجل.

أما المعنى الاصطلاحي: فالنبي هو الذي يخبر الناس عن الله تعالى أوامره ونواهيه فهو أمين الله يهديهم للخير والصلاح بتنفيذ أوامره سبحانه و الابتعاد عن نواهيه، فهو الرابط بين الخالق والمخلوق وهو الوسيلة الموصلة للإنسان إلى رضا الله الخالق الكريم و بمعنى آخر هو البوابة الإلهية على الأرض من خلالها يستطيع أن يرتقي إلى درجات القربة منه:

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). [سورة النساء: الآية 59].

فعلى هذا نرى أن الذي يريد أن يدخل في رحاب الله ويكون من المقربين لديه عليه أن يطيع الله من خلال تطبيقه لرسالة النبي المرسل وأوامره. فالرسالة السماوية هي اللوائح القانونية الإلهية التي تشمل الحياة بكل معانيها والنبي المرسل هو الذي ينقل هذه اللوائح القانونية للبشر بعد أن يكون الانموذج التام في تطبيق تلك اللوائح القانونية على نفسه وأسرته ومجتمعه فقد قال سبحانه:

(لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة). [سورة الأحزاب: الآية 21].

وهذا النبي المرسل مختار من قبل الله عز وجل لتأدية هذا الدور الكبير والخطير في الحياة فالمسألة إذن تعينيّة من قبل الله سبحانه لمواصفات ومؤهلات خاصة يمتاز بها الرسول المنتخب لا يعلمها إلا هو العزيز القدير فقد قال عز وجل:

(رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). [سورة النساء: الآية: 165].

و(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). [سورة الأحزاب الآية: 40].

و(يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض). [سورة ص: الآية 26].

و(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). [سورة الأنبياء: الآية: 107].

فمسألة الرسالة مسألة غيبية بحتة وتعيين النبي المرسل مسألة غيبية أيضاً فهو سبحانه يصطفي من عباده ويختار ضمن المقاييس الخاصة به فالله يختاره أميناً نقياً زاكياً صادقاً وكل هذه الصفات الإيجابية المعروفة الظاهرة أمام الجميع وهنالك صفات إيجابية باطنية يمتاز بها الرسول تبقى في الأُطر الغيبية التي لا يعرفها إلا الله وعلى ضوئها يتم تعيين النبي المرسل وتنزل الرسالة عليه ليبلّغها بأمانة وإخلاص.

(وما ينطق عن الهوى ,إن هو إلا وحي يوحى). [سورة النجم: الآيتان 3،4].

و(ما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً). [سورة الفرقان: الآية 56].

ما هي ضرورة النبي:

أما ضرورة النبي (صلى الله عليه وآله) فنتحدث عنها فيما يلي:

(أ) الضرورة العقلية.

(ب) الضرورة التكوينية.

(ج) الضرورة الشرعية.

(د) الضرورة النفسية.

(هـ) اللطف الإلهي.

فضرورات بعثة النبي للبشرية كمنقذ وموجّه ضرورات عديدة فالنبي (صلى الله عليه وآله) هو حلقة الوصل الطبيعية والشرعية بين الخالق والخلق بين الرب والمربوب فلندرس أهم هذه الضرورات التي سجلناها قبل قليل:


(أ) الضرورة العقلية:

إن الإنسان خلق بفطرته - وفي داخله - قوتان متصارعتان الخير والشر.

(ونفسٍ وما سواها ،فألهمها فجورها وتقواها). [سورة الشمس: الآيتان 8،7].

وهذا كما نُعبّر عنه بالجهاز العقلي الكاشف والداعي للخير من جانب ومن جانب آخر الأهواء والشهوات الداعية للشر واللهاث المادي فأمام إغراءات الدنيا وشهواتها يتضاءل دور العقل فينسى الإنسان الفطرة السليمة والعقل النيّر فيمشي خلف شهواته وإغراءات الدنيا بينما تبرز حاجة العقل البشري إلى القوة الغيبية المبدعة التي طالما تنادي بيقظة العقل وإثارة دفائنه وتنبهه بالذكرى.

(فذكر إنما أنت مذكّر). [سورة الغاشية: الآية 21].

(سيذّكر من يخشى). [سورة الأعلى: الآية 10].

فكلما ابتعد الإنسان عن رؤى عقله أو بمعنى آخر إن أعماله السيئة حجبت دور العقل كلما نادى الرسول ونادت الرسالة الإلهية بالعودة إلى دور العقل والتفكير في سبيل النجاة ضمن البرامج الشرعية وفسح المجال أمام الشهوات لتحقق بالطرق المشروعة لإنقاذ الإنسان من عقد الكبت والانعزال وهنا تتحقق العدالة الإلهية بأوسع معانيها حيث نلاحظ جانب الفجور لدى الإنسان له من يثيره ويستهويه ويجلبه ويحرّكه نحو الشر ويلمّع له النتائج ذلك الشيطان والدنيا واللذات والغرائز الفطرية فمن الطبيعي أن تشملنا العدالة الإلهية حيث يضع العدل الإلهي من يذكر الإنسان ومن ينبهه ويجلبه ويهذبه ذلك الرسول وتلك الرسالة بل كان كل الرسل والرسالات التي بعثت تؤدي هذا الهدف الرئيسي.

فإذن النبي المرسل والرسالة السماوية ضرورة عقلية فلا بد من الرسول ومن الرسالة لتتحقق العدالة الإلهية والتوازن الطبيعي ما بين قوى الشر وقوى الخير المتصارعة في ذات الإنسان وعمق المجتمع البشري ولا بد من الانتصار للعقل الإنساني فهو بحاجة ماسة إلى دعم غيبي لينتصر على قوى الشر كما أن لقوى الشر من يثيرها وينتصر لها من الأهواء والشيطان والدنيا، والآن وبعد تحقق الموازنة وإتمام الحجج الباطنية والظاهرية يترك الإنسان إما شاكراً وإما كفوراً كما يقول القرآن:

(إن هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان: الآية 3].

وأما من يدّعي قدرة العقل على التوجيه والهداية للإنسان من دون دور للأنبياء والرسالات فهو بعيد عن الدقة حيث نلاحظ عبر التاريخ أن المصلحين مهما بلغوا من القدرة العقلية ما استطاعوا تحقيق التوجيه والهداية بالشكل المطلوب لأن عقولنا مهما بلغت فهي قاصرة عن الإحاطة بأسرار الكون والغيب وحتى أنها قاصرة من معرفة المكاسب والمصالح بالشكل التام فنقرأ بالتاريخ أن عقل الإنسان اخترع له ربّاً من حجر أو من تمرٍ فأكله حينما جاع وقسم الآلهة إلى إله السماء وإله الأرض وإله الزرع وإله الحرب..ويروون عن الآلهة كيف تفعل المنكرات وما شابه كلها تصورات ونظريات ساذجة للعقل الإنساني سرعان ما تتغير , بل كثير من النظريات حتى العلمية الحديثة منها ما يفنّد بعضها بعضاً فمثلاً في الطبابة تتبدل وتتغير من زمن لزمن وكثير من الأسرار في الطبيعة والكون يكتشفها العقل بعد مرور فترة زمنية بالإضافة إلى أن الله عز وجل لا يفعل شيئاً هباءً ولغواً - والعياذ بالله - بل إنه يعلم علم اليقين أن هذا المخلوق (الإنسان) لا يستطيع أن يدير نفسه بنفسه مع منحة القدرة العقلية الكبيرة لذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب لتنظيم حياة الإنسان ووضع الضوابط اللازمة في حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولو أن الله تعالى كان يعلم بعلمه الغيبي أن الإنسان يستطيع أن يستغني عن الرسالة والرسول بالاعتماد على عقله وما زوّده من امكانيات ذاتية لتركه لشأنه بينما نحن نلمس الحاجة الماسة للمنهج السماوي الذي عرّفه إلينا سبحانه وتعالى فهو خالقنا وهو العالم باحتياجاتنا, وعقولنا كذلك بحاجة ماسة إلى منهجية السماء الثابتة لرسم قوانين الدنيا من العلاقات الاجتماعية كالزواج والإرث والمعاملات الأخرى لكي يتحقق رضا الله بتطبيق قوانينه الشرعية وكذلك تبيان المفاهيم الإسلامية بالشكل العلمي كالعدالة والمعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: (إنّا لمّا أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ثبت أنه له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جلّ وعز وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه حكماء مؤيدين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيءٍ من أحوالهم - مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة. وفي رواية أخرى في علل فضل بن شاذان عن مولانا الرضا (عليه السلام): (فإنْ قال فلِمَ وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة قيل لأنه لمّا لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملوا لمصالحهم وكان الصانع متعالياً عن أن يُرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بدٌ من رسول بينه وبينهم، معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه منافعهم ومضارهم...)(1).

ولا بد من الإشارة إلى ادعاءٍ يدعيه البعض بأن التطور العلمي كفيل بتنظيم حياة الإنسان والمجتمع فالعلم والتكنولوجيا وأدوات العلم الأخرى كل ذلك يجعلنا نستغني عن النبي المرسل ورسالات السماء وخاصة نحن أمام قوائم جبارة من الاكتشافات والاختراعات العلمية المتعددة التي ذللت صعوبات الحياة وحطمت كبرياء الطبيعة القاسية وتستطيع هذه الأدوات العلمية أن توصل الإنسان والمجتمع إلى السعادة في الحياة كما نلاحظ سعادة الإنسان مع الصناعات المتطورة وخاصة في مجال الخدمات من وسائل النقل والكهرباء والهاتف والتلفاز وغيرها. وهذه الفكرة يثيرها البعض من أنصاف المثقفين على رؤوس الشبيبة والأشبال لأغراض معروفة وبالفعل لأنهم عرفوا شيئاً وغابت عنهم أشياء.. وصحيح أن العلم خدم ويخدم البشرية جمعاء خدمةً لاتنكر فقرّب المجتمع البشري من بعضه البعض وأضاء ليله وجعله كالنهار وذلّل صعوبات الهندسة والطب والخدمات ولكن بقيت أمام العلم والعلماء أسرار ضخمة وألغاز كثيرة يصعب على العلماء فكّها ومعرفة رموزها إضافة لأسرار الغيب والنفس الإنسانية وما وراء الطبيعة حيث يقف العلم والعلماء موقف الطفل الحائر أمامها لا يمتلك مفتاح الأبواب الموصدة بل لايستطيع معرفة موقع الأبواب حتى يقف عندها ليطرق الباب أو ينتظر أمام الباب طويلاً عسى من مخبر أو أمر طارئ يستطيع تفسيره ليملي فراغه ويقف العلم والعلماء موقف التلميذ الصغير أمام أسرار الطبيعة الهائلة والنفس والميتافيزيق هذا الكلام بشهادة رجال العلم أنفسهم يقول الكسيس كاريل في كتابه المعروف (الإنسان ذلك المجهول) (...فنحن نؤكد أن جميع المتخصصين في عملهم يعتقدون بأن ما ظفروا به لحد الآن ضئيل جداً ولا أهمية له بأزاء المسائل التي لابد أن نعرفها فيما بعد.. والواقع إن الإنسان مجموعة واحدة معقدة مبهمة ليست قابلة للتفكيك ولا يمكن معرفتها بسهولة ولا تتوفر لحد الآن الأساليب التي يمكن استخدامها في دراسته جزءاً جزءاً وبصورة مجموعة واحدة ودراسة علاقاته بالبيئة المحيطة به... وعلى هذا فإن الإنسان الذي يعرفه المتخصصون في كل فرع من هذه العلوم ليس واقعياً أيضاً وإنما هو شبح يصنعه ويعرضه في ذلك العالم)(2).

ويقول وليم جيمس في كتابه (إرادة الاعتقاد): (إن علمنا ليس إلا نقطة ولكن جهلنا بحر زاخر) ويقول الكسيس كاريل: (إن علمنا عن ذاتنا لايزال في حالة بدائية) ويقول غوستاف لوبون في كتابه (الآراء والمعتقدات): (إن العلماء تبدو عليهم السذاجة كما تبدو على الجهلة الآدميين).

ويقول الدكتور أبرسولد: (وعندنا تزايد علمي ومعرفتي من الأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان تبيّن لي أن هنالك كثيراً من الأشياء لم تستطع العلوم حتى اليوم أن تجد لها تفسيراً وتكشف عن أسرارها النقاب)(3).

مع كل هذا التطور العلمي وشهادة العلماء بأن العالم لا يزال مجهولاًَ أمامنا فكيف نعطي لهذا العلم أمر تقرير المصير وبناء الروح والقانون والعدالة فالعلم لا يزال بسيطاً ويبقى كذلك كيف نربط أنفسنا بعجلته الحائرة؟ وفي الحال نرى أن العلم يخدم البشرية حيث تتفجر طاقات الإنسان العقلية في استخدام بعض أسرار الطبيعة أما الجوانب الغيبية فالعلم لا يستطيع أن يفهمها أو يدركها بل يعلن عجزه التام عن فهمها. فعلى ذلك تتحقق لدنيا ضرورة الرسالة والرسول عقلياً لتوضيح هذا الأمر المستصعب في سن القوانين وتنظيم علاقة الإنسان بأسرته ومجتمعه وبنفسه وبربه وبالكون كذلك وهذا ما يعجز عنه العلم وكل وسائل التكنولوجيا المتطورة فمن هنا يُقال أن الإنسان بحاجة إلى صياغتين صياغة ذاتية لنفسه كي ينمو على الفضائل والاستقامة وصياغة خارجية يقوم بها الإنسان لتوفير الخدمات وتذليل الصعاب فالصياغة الأولى أي البناء النفسي لاينجح إلا عبر مناهج السماء وقوانين الرسالة السماوية.

(لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). [سورة الإسراء: الآية 88].

وأما الصياغة الثانية فتعتمد على طاقاته الفكرية وتطوره الحضاري.

(يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان). [سورة الرحمن: الآية 33].

فالمسألة متروكة للإنسان نفسه حيث يستفيد من خبراته وتجارب السابقين لتطوير حياته الخارجية فلو تمت الصياغتان بالشكل المناسب لسعدت البشرية وإن تمت الصياغة الخارجية دون الداخلية فالويل للبشرية لأن هذا التطور العلمي لا ينفعها بقدر ما يضرها يقول الكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) (إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها...)(4).

أما لو تمت الصياغة الداخلية صياغة القيم والمثل في الإنسان والمجتمع - ولو فرضنا من دون الصياغة العلمية الخارجية - لعاشت البشرية في أمن وأمان وراحة نفسية مع أتعاب جسدية. فإذن الصياغة الذاتية لإنسانية الإنسان هي الهدف السامي الذي تطمح له رسالات السماء فالكمال الإنساني طموح الأنبياء ورسالاتهم قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبته الأولى في نهج البلاغة: (... فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياء ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم آيات المقدرة..) فحينما تتفجر طاقات الإنسان العقلية سيصوغ بواسطة الرسالة الإلهية نفسه ومجتمعه وحضارته والعلم سيكون في خدمة الإنسانية - آنذاك - .


(ب) الضرورة التكوينية: 

حينما نتسائل عن هدف الخلق ولماذا خُلق البشر؟ يجيبنا القرآن الكريم:

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [سورة الذاريات: الآية 56].

ونسأل ما هو الهدف من العبادة ؟ حينها نعرف أن العبادة هي التي تضمن لنا سعادة الدنيا والآخرة فنخرج بنتيجة واضحة هي أن الهدف هو تحقيق المصلحة والسعادة للإنسان نفسه.

(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم). [سورة الإسراء: الآية 7].

فبالضرورة التكوينية نكتشف ضرورة النبوة كي تكتمل الصورة من كل جوانبها فلو لم تكن الرسالة السماوية موضحة لنا طريق الكمال والسعادة ما اكتملت الصورة التكوينية للحياة بصورة عامة وبالنسبة للإنسان بصورة خاصة هذا من جانب ومن جانب آخر أن تكوين حياة الإنسان بحاجة إلى أخيه الإنسان وبحاجة إلى المجتمع والأسرة والأرض.

فالناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ *** بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

فالإنسان مدني بالطبع كما يقولون فعلاقاته الحياتية لابد لها من نظام يحكمها ويضبطها وإلا تتحول إلى حياة الغاب ويحكمها قانون الغاب فهذه القوانين يجب أن تكون عادلة وملائمة لتكوين الإنسان الداخلي لترتب علاقته مع بني جنسه ضمن المقاييس المقبولة, مثلاً العلاقة الزوجية والعلاقة الأبوية والبنوية وعلاقات الجوار وغيرها وليقطع دابر المعتدين على هذه القوانين في حالة وقوع الظلم والاعتداء على الحقوق. فالرسالة السماوية هي الضمان في كل ذلك على عكس القوانين البشرية التي تتغير بين آونةٍ وأخرى تبعاً لمزاجية الحكام أو لاختلاف فهم المقنّنين والمنظّرين لتبعات القوانين هذه.

وكذلك نلاحظ أن الإنسان في هذا الكون هو المخلوق الوحيد الذي يمتاز بالقدرة العقلية والتي بدورها تحاول أن تستفيد من كل الوجودات في الكون ونرى بالمقابل هذا الكون مسخر للإنسان.

(أو لم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون). [سورة يس: الآية 71].

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً). [سورة البقرة: الآية 29].

(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه). [سورة الجاثية: الآية 13].

(الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره). [سورة الجاثية: الآية 12].

(وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار, وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار). [سورة إبراهيم: الآيتان 32،33].

وفي الحديث القدسي (عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي) فالإنسان خلفية الله على الأرض فإذن هذا المخلوق بحاجة إلى ضوابط للطموحات النفسية التي لولاها لضاعت القيم الإنسانية وبدأ الواحد يأكل الثاني على قاعدة فاز باللذات من كان جسوراً. هذه الضوابط تحدد العلاقة بين العقل الإنساني المدير والمستثمر لما حوله من الوجود وما بين العقول الإنسانية الأخرى من جهة ومن جهة أخرى بينه وبين الطبيعة ذاتها أي بينها وبين طريق الاستثمار الممكنة من الوجودات بصورة عامة التي يريد استثمارها. وفي الرواية: (أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق لم يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة فعلم أنهم لن يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم) فإذن للنبوة ضرورة تكوينية لاكتمال الصورة التكوينية للوجود يقول الدكتور أميل درمنجام في كتابه (حياة محمد): (إن وجود الأنبياء ضروري لهذه الدنيا بمقدار وجود القوى الطبيعية النافعة والعجيبة كالشمس والمطر..)(5).

فالنبي خليفة الله في الكون خلافة كونية وعلى الناس والقانون خلافة تشريعية فضرورته إذن تكوينة كما أنها تشريعية.


(ج) الضرورة الشرعية:

القوانين الإلهية وتشريعات الحلال والحرام في المسائل الشخصية والمعاملات العامة الاجتماعية والاقتصادية والآداب والعلاقات العامة والأخلاق والسياسة وما يتصل بهذه القوانين من أمور فرعية كل ذلك بحاجة إلى تبيانه وتطبيقه وهذا ما يقوم به النبي المرسل لتوضيح رسالة السماء فإذن هنالك ضرورة شرعية في بعث النبي والرسالة فالنبي المرسل يعتبر المبلغ لإرادة الله الشرعية وعن طريقه يتم التبليغ بأحكام الله الشرعية ولولاه لما استطعنا أن نحرز رضا الخالق الكريم عبر تطبيق دساتيره فقد قال سبحانه:

(قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين , أُبلّغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين). [سورة الأعراف: الآيتان 67،68].

ومن ناحية ثانية نحن كبشر لا ندرك سوى هذا العالم المحيط بنا بنسب معينة من العلم به فنحن بحاجة إلى معرفة أبعاد خلق الله عز وجل وما أعد للإنسان في الآخرة من ثواب وعقاب وكيف نعتقد بالعودة يوم القيامة حيث الحساب وقبل يوم الحساب عالم البرزخ وما الذي يجري في عالم البرزخ وكيف يكون القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران.. هذه الأمور وضحها الأنبياء (عليهم السلام) لنا فالإنسان وحده لا يمكنه أن يتعرف على هذا المستقبل المبهم بوحي نفسه لذلك نحن نحتاج إلى من يرفع عنا هذا الإبهام ويعطينا أسس الاعتقاد والإيمان بالمعاد والبرزخ والجنة والنار والنعيم والعذاب فمن مهمات الرسالة السماوية والنبي المرسل توضيح هذا المستقبل المرتقب.

قال سبحانه: (وإن ما نُرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفيّنك فإنما عليك البلاغ). [سورة الرعد: الآية 40].

وفي آية أخرى: (هذا بلاغ للناس لينذروا به). [سورة إبراهيم: الآية 52].

ومن ناحية ثالثة نحن بحاجة إلى برنامج روحي يضمن لنا سلامة الاعتقاد وصلاح النفس والثبات على المبدأ عن طريق العبادة أو سبل التزكية للنفس لضمان الاستقامة وهنا ما يوضحه لنا كذلك النبي المرسل والرسالة السماوية.

قال سبحانه: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). [سورة الجمعة: الآية 2].

وجاء في الرواية: (... وكان ضعفهم (الناس) وعجزهم عن ادراكه ظاهراً لم يكن بد من رسولٍ بينه وبينهم, معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم...) ومع فقدان هذا البرنامج سيجرّنا الفراغ العقائدي إلى اختراع عقائد أو اختلاق أفكار تسد هذا الفراغ العقائدي فيتمسك بها الإنسان على مستوى الخرافات والتقاليد الرجعية التي لاتعرف العلم والوجدان. والحق كما كان لدى الهنود تقاليد دفن الزوجة وهي حية مع زوجها المتوفي وكان عند البعض الآخر من الهنود عقيدة أكثر فساداً وانحرافاً من هذه حيث يحرقون الزوجة أو الزوجات على قبر الزوج المتوفى بعد أن تخرج مسيرة كبيرة لتشيع جثمان الزوج هذه المسيرة ترفع الأناشيد والأهازيج بالطبول والمزامير حتى تصل إلى القبر فتنصب محرقة ضخمة على القبر بعد دفن الزوج لترمى إليها الزوجة المسكينة أو الزوجات طعمة لهذه النار الملتهبة..

بينما الشريعة السماوية تضع برنامجاً روحياً خالصاً من هذه الشوائب الغريبة وتحدد حقوق الرجل كما تحدد حقوق المرأة وتبيّن ضوابط هذه الحقوق مما يلائم الفطرة والشرف والكرامة.

قال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). [سورة النساء: الآية 165].

وقال الإمام علي (عليه السلام): (بعث - الله - رسله بما خصهم به من وحيه وجعلهم حجة له على خلقه لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق)(6).


(د) الضرورة النفسية:

قال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). [سورة الأحزاب: الآية 21].

مسألة القدوة في الحياة مسألة في منتهى الأهمية حيث أن الإنسان يرسم لنفسه أهدافاً معينة في الحياة فإن كانت هذه الأهداف قد نفّذها آخرون من قبله وهو يعتبرها سامية في نظره فسرعان ما يطبقها مستلهماً من المطّبق الأول أسلوبه ومنهجيته والمسألة اعتيادية بالإضافة إلى اهميتها الكبيرة وخاصة في قضية مجاهدة النفس وتزكيتها والقيم الأخلاقية العالية والتربية المركزة وحينما نقف في دراستنا على نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الدنيا وكيف كان يتعامل النبي (صلى الله عليه وآله) مع الحياة الدنيوية وغرور الدنيا وزخارفها ندرك أهمية القدوة الحسنة في الحياة فيبدأ الإنسان المؤمن جاهداً نفسه للسير على تلك الرؤى أو الاقتراب من تطبيق تلك النظرات الواعية.

وهكذا نلاحظ أن حيزاً واضحاً في ذهنية الإنسان يستدعي التقليد لشخص ما وفي أمر ما إيجابياً أو سلباً - حسب النظرة الأخلاقية - فهناك من يقلد رياضياً ناجحاً لملء الفراغ الذهني وهناك من يقلد نبياً مقدساً ويتخذه كما في الآية المتقدمة قدوة حسنة فمن هنا جاءت السنة الشريفة في موقع المصدر الثاني - بعد القرآن الكريم - في القضية التشريعية فكل قولٍ وفعلٍ وتقريرٍ للمعصوم يعتبر سنة وعلى المسلمين أن يتخذوا ذلك دستوراً في تطبيق أوامر الله ونهيه. وللعلم إن البناء النفسي للإنسان هو الهدف الأسمى في الحياة حيث يجسد مهمة الأنبياء والرسل ومتى ما بُني الإنسان نفسياً على الأسس الشرعية بُنيت حضارة إنسانية ملؤها العدل والحنان وان البناء الذاتي المستقيم أصعب المهام التربوية لذلك تسعى التربية الإسلامية لتضبيط البنى التحتّية للمجتمع المسلم على أُسس نقية لتتم عملية إنماء القيم الإيجابية في الداخل من الخير والعطاء والاستقامة فالمسألة إذن في غاية الأهمية والخطورة وهكذا جمع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أصحابه بعد الانتصار الأول على المشركين في معركة بدر الكبرى قائلاً لهم: (عليكم بالجهاد الأكبر وقد مضى الجهاد الأصغر) قيل وما الجهاد الأكبر قال (صلى الله عليه وآله): (جهاد النفس).

وجهاد النفس هذا هو البناء المتين لنفسية الإنسان عبر الترويض والمعاناة لخلق الإنسان المجاهد المضحي العابد المطبق لأوامر الشريعة.

ومسألة نفسية أخرى تتضح من النبوة وهي أن الأنبياء من البشر أنفسهم, لا من جنس آخر متباين مع الجنس البشري ولو كان النبي كذلك لصعب اتخاذه قدوة حسنة فحينما يكون النبي من الناس اختاره الله سبحانه لأسباب معينة فهو من صميم المجتمع البشري ويعيش واقعيات الناس ويتداخل معهم ويتقاطع مع حياتهم في التعاون والمحبة والزواج والتجارة والقيادة في الصلاة وساحة القتال فالصورة تكون متكاملة وواضحة مما يوفّر على النفس الإنسانية ضغطاً طبيعياً لاستجابة القرار الشرعي والبلاغ الإلهي منه فقد قال سبحانه:

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ). [سورة الكهف: الآية 110].

فالفارق الرئيسي بين النبي وبقية البشر هو الوحي المنزل من الرب الأعلى كما تشير الآية المباركة. أما لو كان النبي من الملائكة أو الجن أو أي جنس آخر لما استطاع أن يترك الأثر النفسي المطلوب والمناسب في الناس ولما أمكن اتخاذه قدوة في الحياة البشرية ولما انسجم الناس معه بالشكل الذي نراه اليوم من تعلق وانصياع وإطاعة وإن كان بعض الناس وخاصة في زمن الأنبياء يعتبر كون النبي من الناس أمراً لايستسيغه الذوق فلذلك كانت تكثر الشبهات حول النبي انطلاقاً من هذه الفكرة وإنما كانوا يريدونه نوع من المخلوقات خاص بطبائعه مترفع عن عادات الناس كالملائكة مثلاً فنقرأ في الآية الكريمة قوله تعالى:

(.. قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا). [سورة إبراهيم: الآية 10].

وفي قوله تعالى: (... ما هذا إلا بشر مثلنا يأكل مما تأكلون منه). [سورة المؤمنون: الآية 33].

(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق). [سورة الفرقان: الآية 7].

ويرّد ذلك القرآن الكريم للضرورات العديدة منها النفسية.

أما في هذا اليوم فيذهب البعض إلى أن النبي المرسل هو رجل مصلح عبقري كالعباقرة والمصلحين في المجتمع البشري العام. والحقيقة أن النبي المرسل له صفات معينة - كما أسلفنا - وعلى ضوئها تم اختياره لهذا المنصب من قبل الله تعالى فهو من البشر ومختار من الله عز وجل ليؤدي دور الوسيط المبلِّغ بينه تعالى وبين الناس.

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ). [سورة الكهف: الآية 110].

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). [سورة الجمعة: الآية 2].

وهنالك التفاتة جميلة من الآية الكريمة: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) اطمئنان القلوب البشرية لنظام الله عز وجل ودستوره للحياة يأتي من أنه تعالى محيط بكل شيءٍ علماً ومعرفة ويستطيع تحديد الخير والنفع وفرزه من الشر والضرر وأنه سبحانه يقرر ما ينفع الناس دون ميل لنوازع نفسية كالهوى - والعياذ بالله - وهكذا الرسول المعيّن.

(وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى). [سورة النجم: الآيتان 3،4].

مما يوفر حالة الاطمئنان في نفسية الإنسان المتلقّي بصفاء وإخلاص لوحي السماء على عكس القوانين الوضعية التي يضعها الإنسان بوحي عقله القاصر عن المعرفة التامة المحيطة بكل الأمور ظاهرها وباطنها ومن ناحية أخرى أن العقل البشري يتأثر بالهوى والنفس والغرائز بدرجة من الدرجات.

بينما منهجية الله تعالى ترسم الخطة للتزكية النفسية من كل البراثن والنزعات الشيطانية (ويزكيهم ويعلمهم) وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(7).

وجاء في (الكافي) عن هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام) أنه قال لزنديق سأله من أثبت الأنبياء والرسل قال (عليه السلام): (إنا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا.. وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه..) فالبناء النفسي المتين على أسس الشريعة الإلهية تخلق هذا الجو من الاطمئنان, والانتعاش الروحي يخلق رقابة وجدانية داخلية على تصرفات وسلوكيات الإنسان نفسه فيلومه ضميره حينما يعصي أو يحاول العصيان ولو بالنية المجردة, فزراعة البوليس الداخلي في النفس ليراقب تصرفات وأعمال ونوايا الإنسان من أهم أهداف شريعة السماء وبالفعل تتشكل محاكم وجدانية في قلب الإنسان المؤمن لمحاسبته على سلوكه وكلامه بل على جميع تنفيذياته العملية مما يؤمن سلامة القانون وعدالة التطبيق وهذا ما تفتقره القوانين الوضعية والحكومات البشرية فإذن النبوة والرسالة تخلقان في الإنسان هذا الجو النفسي الهادئ المطمئن والمطبق للتشريع بكل تطوع وإرادة وبهذا تتجلى الضرورة النفسية للنبوة بأبعادها الرئيسية.


(هـ) اللطف الإلهي:

الله سبحانه الذي خلقنا وأرشدنا لفعل الخير والصلاح وحذّرنا من فعل الشر لأننا نجهل الكثير من مصالحنا ونتائج أعمالنا فهو سبحانه أجل وأعظم من أن يورط عباده بجهلهم بل أراد أن يسعدهم في حياتهم الدنيوية ويجعلهم في الآخرة من الناجين من العذاب فهو اللطيف بعباده والرؤوف بهم فلا يترك العباد سدى دون توجيه فمن باب لطفه وحنانه بعث لنا الرسل كي يوضحوا لنا السبل الخيّرة ويميزوها عن السبل الشريرة:

(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان: الآية 3].

وبما أن الشكر والكفر لهما الأرضية المناسبة في نفسية الإنسان فقد قال سبحانه: (ونفسٍ وما سواها, فألهمها فجورها وتقواها). [سورة الشمس: الآيتان 7 - 8].

وقال: (إن النفس لأمّارة بالسوء). [سورة يوسف: الآية 53].

(إن الإنسان ليطغى). [سورة العلق: الآية 6].

هذا من الجانب السلبي أي هنالك استعداد في نفسية الإنسان لهذا الانحراف والفجور والطغيان إلا ما رحم ربي كما في تكملة الآية: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) وأمام هذه الأرضية هنالك أرضية لدى الإنسان موازية لها وهي الأرضية الإيجابية فقد قال عز من قائل:

(ولا أُقسم بالنفس اللّوامة..). [سورة القيامة: الآية 2].

وقال أيضاً: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية). [سورة الفجر: الآية 27].

فهناك استعداد نحو الخير والمعروف وحالة الصراع الدائمة بين الطرفين في داخل النفس الإنسانية في تفاعل مستمر فلابد من التوجيه الرباني لهذا الصراع الدائم, فمن كماله المطلق ومن باب لطفه بعباده أرسل الرسل ليتم نعمته على البشر.

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). [سورة المائدة: الآية 3].

يقول الشيخ المظفر في (عقائد الإمامية): (فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم: (رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم...) وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم..

إنما اللطف من الله تعالى واجبٌ فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم فإذا كان المحل قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لابد أن يفيض لطفه إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه)(8).

وجاء في خطبة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في (نهج البلاغة): (... لما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه واحتالتهم الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم آيات المقْدرة..).

فعلى ما تقدم من ضرورات النبوة وقاعدة اللطف الإلهي نرى أن الشريعة الإلهية توفر وتؤمّن للإنسان حاجياته الفكرية والروحية والمادية بالطرق المشروعة وتؤمن للإنسان حريته في الحياة وتمنحه حقوقه المشروعة وتتماشى مع الواقعيات الحياتية بأبعادها الواسعة مراعية للظروف الطارئة والمتغيرات الجزئية أو الكلية فتدخل العناوين الثانوية لتحديد العناوين الأولية - كما يقول الأصوليون - وفق قاعدة - الضرورات تبيح المحظورات، والضرورات تقدّر بقدرها.



************************************************** *****************

1 - ميزان الحكمة، ري شهري ج9 ص 316،315.

2 - الإنسان ذلك المجهول: الكسيس كاريل ص2 وما بعدها.

3 - الله يتجلى في عصر العلم ص38.

4 - الإنسان ذلك المجهول: الكسيس كاريل ص44.

5 - حياة محمّد للدكتور - أميل درمنجام ص31.

6 - ميزان الحكمة، محمدي ري شهري ج9 ص331.

7 - نفس المصدر ص321.

8 - عقائد الإمامية: المظفر ص15.

 

 

 توقيع صديق الصمت :
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
مشاركة: العقائد الأماميه عليهم السلام
والشكر موصول للاخت إحساس ورد
طريقك الى الله طريق سعادتك فلا تتردد ان تمشي فيه
الصمت كالليل تبيح له بهمك فيساعدك على حمله ويسليك كما تسلي النجوم لياليها
كفاني عزا ان تكون لي ربا وكفاني فخرا ان اككون لك عبا انتي لي كما اريد فجعلني كما تريد
http://www.mislamih.com/mi/133.htm
http://www.zzrz.com/mlion.htm
صديق الصمت غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 07:47 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

ما ينشر في منتديات الطرف لا يمثل الرأي الرسمي للمنتدى ومالكها المادي
بل هي آراء للأعضاء ويتحملون آرائهم وتقع عليهم وحدهم مسؤولية الدفاع عن أفكارهم وكلماتهم
رحم الله من قرأ الفاتحة إلى روح أبي جواد