الأستاذ إبراهيم الذرمان: شُعْلة قِيَمِيّة
أقام المنتدى في يوم الأربعاء ١١ ربيع الأول ١٤٢٩هـ حفلا تكريما للأستاذ أبي هشام إبراهيم بن عبدالله بن عيسى الذرمان أحد رجالات التربية والتعليم في الأحساء، وأبرز عشّاق التراث وجمع الآثار في المنطقة الشرقية، وجاء التكريم في سياق الوفاء والاحتفاء بتلك الجهود المضيئة التي بذلها أبوهشام في جمع التراث وحفظه والعناية به.
ويمثّل حفلُ التكريم رؤيةَ المنتدى بضرورة الاحتفاء بالشخصيات الثقافية والأدبية وهي على شرطِ الحياة؛ اعترافا بفضلها، وتقديرا لجهودها، اقتداءً بقول الجواهري في معروف الرصافي:
أهزُّ بكَ الجيلَ الذي لا تهزُّه
نوابغُه؛ حتى تزورَ المقابرا
فالحياة والوفاء قيمتانِ مستحقتان لكلّ شخصيةٍ كريمةٍ لها سابقةٌ في كرم الفعال، فكيف إذا كانت جامعةً بين أصيل الماضي وسمو الحاضر وإشراقة المستقبل، مثل الأستاذ أبي هشام إبراهيم الذرمان الذي جمع تراث الأجداد في منزله وبين حنايا صدره؛ ليُبصّرَ به الأولاد والأحفاد؛ ليجعلَ من الماضي مخطوطة الحاضر، ومن الحاضر كتاب المستقبل؛ فيتمَّ التواصل بين الأجيال متواترًا زاهيًا متوهِّجًا سامقًا.
لم يكن حفلُ التكريم وفاءَ حياةٍ جعلتْ من الأحساءِ دارةً من داراتِ العربِ في منزلٍ لا يقاس بالأذرع والأمتار، ولكنه يقاسُ بما انبسطت فيه من هالات الضوء ورياحين الأرض وخوابي القيم، وإنما جاء التكريم منذ قرابة عقدٍ من الزمن؛ لنحتفلَ نحنُ بتلك الحياةِ ونبحثُ فيها عن التين والزيتون وطور سينين، لعلّنا نأوي إلى رَبْوةٍ ذاتِ قَرار ومعين.. ولعلنا!
إنّ الأحساءَ - منذ قديمها - أرضُ عُمْرانٍ وإنسان؛ واستطاع الأستاذ أبوهشام أنْ يجمعَ ما بينهما في منزله، وأن يطوّقَهما بنفسه ونفيسه؛ مثلما يجمعُ الفلاّح بين الماء والتربة الصالحة؛ ليرينا جمالَ الإنسان في الطبيعة، وأثرَ الطبيعة في الإنسان، فتبدوانِ في زَخَارفَ ونفائسَ وأباريقَ ونمارقَ ومباخرَ وملافعَ وقدورٍ راسيات.. أفليسَ ذلك فعلاً من أفعال الفنِّ إذا أراده الفنّانُ أن يكون فنًّا، فالفنُّ كامنٌ في الطبيعة لا يُرى، فإذا أراده الإنسان الفنّانُ استحالَ بين يديه وعينيه ملابسَ وطنافسَ ونقوشًا ودروعًا وسكاكين ودكاكين.. ولكن برؤيةٍ فنيّة من روحه. وهذا ما كان يفعله الأستاذ الفنّان إبراهيم الذرمان.
إنّ الإنسانَ الأحسائيَّ استوطنَ السنينَ في الأرضِ؛ ولذا استطاع أن يتركَ آثارًا ونقوشًا وتراثًا مكتوبًا – ربما تكون متواريةً – فبذلَ الأستاذُ أبوهشام عمرًا بكامله؛ كي يجمعَ ما توارى، ويوثّقَ ما أخذتْهُ السنينُ بنابها، وهذا من فعلِ الفنّانِ العَاشق الذي يفطنُ إلى ما توارى وقد لا يفطنُ له غيرُه، فهو يرومُ آثارًا وتراثًا وأدواتٍ وآلاتٍ مثلما يرومُ العاشقُ الفنّان أشياءَ معشوقته، فيبحثُ عنها في منبسطِ الرمالِ وما ستدارَ منها، وربما تقرّى رائحةَ الشيحِ والقيصوم والخُزَامى؛ حتّى تلوّحَ له ولو من بعيد.. فأتى بما يُجلّلُ هامَ الأحساء - حاضرِها وباديها - بالفَخَار، وبما يجُلُّ عن الوصف.
لقد نما عشقُ التراثِ وجمعُه.. مع تَنامي طفولته ونموِّ وَعْيه، فأخذَ يلتقطُ نوى التّمر من الأرض ويجمعهُ؛ لأنّ أسرتَه كانت ذاتَ أصولٍ فلاّحيّة - وهو يباهي بها الفرقدينِ - فأصبحَ جذعُ النّخلةِ يعني له: إنّ هاهنا هِمَمًا مكدّسةً داخلَه؛ حتّى غَدَا الجِذعُ عمودَهُ الفِقَريّ، فأخذ يذرعُ يَفَاعَ الأرض وسهولَها وأوديتَها وهضابَها وجبالَها.. يبحثُ عن طفولتِه ونوى تمره، فلمّا لم يجدهما جدّ في طلبِ ماضي أجداده وتراثِ آبائه؛ ليرويَه لنا حكاياتٍ أحسائيّةً وأقاصيصَ بطولاتٍ وهمم عالية. فقرّر أنْ يجعلَ من بيته تحفةً خالدةً، ومُتحَفًا رائدا في حكاية الدّلة والفنجال، وقصّة القهوة والهال، ورواية أحاديث المجالس العتيقة، وأهازيج الفرح الباذخ، وأشياء الفلاّح، وأحاديث الذهب والفضة، وحكايا الحبر والخط والرسم والقراءة والكتابة، وأدوات الصوت واليامال، وأغراض الحي في الدكان، وهمس المرايا للصبايا.
إنّ حفلَ التّكريم لا التأبين كان خطوةً نحو تكريمِ الحياة في عنفوانها، وقد كانَ المنتدى في حينها وفِيًّا لتلك الحَيَوَات التي آثرَ أبوهشام أنْ يَسْتَنْهِضَهَا فينا، وقد نجحَ في نقلِ الشُّعلة القِيَمِيّة إلينا بفيض روحه وجمالها وعبق شيحها وقيصومها وجاوي مباخره وفضّتها. أفليست مباخره في مجلسه شُعْلةً قِيَمِيّةً لا تخبو.. وينبغي أن تتوارثها الأجيال.
لا أريدُ أن أتحدثَ عن موته؛ لأنني لا أحسن ذلك.. والسلام
جابر عبدالله الخلف
الجمعة 27/5/1438هـ